قراءة باجبير وقراءتي
اتفق معي زميلي العزيز الأستاذ عبد الله باجبير واختلف في إشكالية تدني القراءة في عالمنا العربي .. وتلك شيمة النهج الموضوعي في النقاش، فالخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية.. كما قال جدنا لطفي السيد .. لكني أحسبك - أخي عبد الله - قمت بتسوية الأمر على طريقة (كل واحد يصلح سيارته) التي نلجأ إليها في فض النزاع عند وقوع حادث تصادم وهو أسلوب جميل في مثل ذلك الموقف، لكنه لا يتسق مع لب المشكلة التي نتناولها، فأنا، لا أنفي أهمية الدور الذي يمكن أن يقوم به القطاع الخاص في التحفيز على القراءة وإشاعة الحراك الثقافي، لكني لا أوافقك إطلاقا في «التعويل» على إمكانية أن يلعب هذا القطاع هذا الدور في ديار العرب للأسباب التالية:
أولا: لأن القطاع الخاص في عالمنا العربي قطاع أوجدته الدولة أصلا .. فقد نما، ترعرع، تغذى وأينع على غنائم الدولة وفيئها، وبرضاها ورحابة صدرها بل بتشجيعها ودعمها بالقروض، بالمنح أو التسهيلات، الامتيازات، الإعفاءات الجمركية وغيرها، ومع ذلك ظل هذا القطاع يمارس (دلعه) في التملص من التوظيف, فضلا عن أنه في الأساس قطاع لم يبادر إلى خلق اقتصاد حقيقي، وإنما اكتفى بالتجارة، بالوكالات والاستيراد والتجميع وبعض من الصناعات الخفيفة الاستهلاكية .. وفي بلادنا، رأينا بعض ممثليه حين يعلو السجال عن السعودة لا يتردد في التلويح بالهجرة بأعمالهم وأموالهم خارج البلاد, وإذا كان هذا هو حال القطاع الخاص وسلوكه في المؤسسات والشركات (الاقتصادية) فأي أمل لك في أن تكون (الثقافة والمعرفة) من أولويات اهتمامه واستثماراته!
ثانيا: ومع ذلك لم يكن القطاع الخاص غائبا فمشاركاته ظلت هي الأبرز، رغم زهيد العائد المادي مقابل عظيم الجهد, وما دور النشر العربية والمكتبات والمؤسسات الصحافية والمجلات والمسارح ودور السينما ومحطات التلفزة إلا دليل على أن القطاع الخاص العربي ظل يحاول سد الفراغ وتفعيل الحراك الثقافي، إضافة إلى إنجاز مشاريع ثقافية كبرى نوعية لعل أبرزها ما أنجز في بلادنا حيث تم طبع ونشر (الموسوعة العربية العالمية) في (30) مجلدا على نفقة سمو ولي العهد، الأمير سلطان بن عبد العزيز، شارك في إعدادها وترجمتها وتحريرها أكثر من (1000) مشارك وطبعت مرتين، رأس تحرير طبعتها الأولى الدكتور أحمد الشويخات فيما رأس تحرير الطبعة الثانية الدكتور سعد البازعي، كما تم إنجاز (موسوعة الملك عبد العزيز آل سعود سيرته وفترة حكمه في الوثائق الأجنبية) في (20) مجلدا، على نفقة ولي العهد سمو الأمير سلطان بن عبد العزيز أيضا, وشارك فيها لفيف من الباحثين والمترجمين والمحررين، كذلك تم إنجاز موسوعة (الثقافة التقليدية في المملكة العربية السعودية) في (12) مجلدا على نفقة سمو الأمير خالد بن سلطان, وقامت (الدارة) بنشر الموسوعتين ورأس تحريرهما الدكتور سعد الصويان.
هذه مشاريع كبرى حضارية عملاقة كانت تحتاج إلى أرضية تستجيب لهذا العطاء وتتفاعل معه وهو الدور الذي لم تنهض به المؤسسات العامة المعنية بالمعرفة والثقافة كما ينبغي، فدور الدولة هو الأساس، إذ بحضورها المكثف في رعاية الثقافة تغري القطاع الخاص وتحفزه للمنافسة كما في القطاعات الأخرى.
ثالثا: أن يفعل القطاع الخاص العربي مثل «هوليوود» و»برودواي» أو «الليدو» و»بيكادلي» فالأمر - أيها العزيز .. مختلف جدا، بل المقارنة لا تستقيم هنا, فالظروف التاريخية والموضوعية لنشأة دولنا مغايرة تماما للظروف التاريخية والموضوعية لنشأة دولهم، فالقطاع الخاص في أمريكا وفي أوروبا، إن فعل ما أشرت إليه فلأنه هو الذي أوجد الدولة وهي تعيش على حسابه ولحسابه منذ البدايات الأولى إلى أن استتب النظام الضريبي, وبالتالي فما ذكرته أيها العزيز عن أن الدول المتقدمة جميعا ليست فيها وزارة للثقافة والإعلام وأنه ليس في «هوليوود» شركة حكومية ولا في شارع «برودواي» مسرح واحد تديره الدولة وليس هناك ممثل أو ممثلة أو مخرج حكومي قول صحيح 100 في المائة لكن مقارنة ذلك بالعالم العربي وقطاعه الخاص هي الشيء الفاقع الاختلاف تماما، فالدولة هناك جابية ضرائب تعتاش إدارتها السيادية عليها، فيما الدولة العربية دولة أبوية تمثل فيها الحكومة أو القيادة أو السلطة ولي الأمر، الراعي والمخطط والموجه والممول الأساسي لكيان الدولة ومشاريعها التنموية المختلفة ومن ضمنها بالتأكيد الثقافة، عبر المدارس أو مراكز التنمية الثقافية الأخرى.
هكذا – أيها العزيز – ترى أن القياس بالدول المتقدمة ليس في مكانه ولا في محله، فنحن العرب خرجنا من القبيلة إلى أبوة الدولة، فيما أمريكا خرجت من (أمة من المهاجرين - كتاب جون كنيدي) لعب المزارعون والتجار والصناع والطهريون وغيرهم دورهم في نسج كيان الدولة، كما حدث ما يشبه ذلك في أوروبا بتجارب دولها المختلفة، غير أننا نحن العرب منذ نشوء دولنا الحديثة بعيد الاستقلال ولدنا وعشنا في عصمة الدولة في كل مناشطنا ولم يعل الحديث عن القطاع الخاص إلا في غضون السنوات الأخيرة، عندما بدأ الحماس في الاتجاه إلى سياسة التخصيص.
وإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك فعلا، تعود الكرة إلى مرمى المؤسسات الثقافية الرسمية عن مسؤولية تدني الاهتمام بالقراءة والثقافة، أما ما أشرت إليه عن سطوة البث الإلكتروني وحضارة الصورة .. فهما أيضا شأنان ثقافيان كان بالإمكان استشرافهما والانخراط معهما في مؤسساتنا العامة، قبل الخاصة وجعلهما رافدين نوعيين يثريان الثقافة ويعمقانها.. أليس كذلك؟!