لغة يغتالها أبناؤها في عقر دارها

اللغة العربية هي الهوية لـ 338 مليون عربي, وهي لغة العبادة والديانة لمليار و570 مليون مسلم حول العالم, وهي لغة عمل رسمية في الأمم المتحدة وجميع منظماتها ووكالاتها المتخصصة. ولأهمية اللغة العربية كعنصر توحيد للعرب ولغة للقرآن والحضارة العربية والإسلامية فلقد كانت المستهدفة الأولى بالتدمير من قبل القوى الاستعمارية ليسهل بعد تدميرها إلغاء الهوية العربية أولاً ثم الإسلامية ثانياً ثم فرض العولمة اللغوية ثالثا. لقد انحسر الاستعمار البريطاني عن دول الجزيرة العربية في السبعينيات ولم ينل من اللغة العربية في مهدها آنذاك مثلما نال منها المستعمر الفرنسي في الحقبة نفسها في دول المغرب العربي. لقد رحل المستعمران البريطاني والفرنسي ولكنهما أوكلا مهمة اغتيال اللغة العربية في البلاد العربية إلى أبناء اللغة العربية فقاموا بالمهمة على خير ما يرام. وقد يتساءل البعض عمن يجرؤ على اغتيال اللغة العربية لغة وهوية العرب ولغة القرآن في عقر دارها مهبط الوحي المملكة العربية السعودية ودول الجزيرة العربية؟
ولو استعرضت ورقيا مواثيق جامعة الدول العربية ومنظماتها ودساتير الدول العربية جميعا ومواثيق الأحزاب القومية العروبية وتصريحات القادة العرب ووزراء التعليم والتعليم العالي والثقافة والإعلام وجميع المسؤولين العرب الذين لهم صلة بالسياسة اللغوية والتخطيط اللغوي في العالم العربي لظننت أن اللغة العربية بألف خير ولن يجرؤ كائن من كان على المساس بها, فضلا عن اغتيالها. ولكن إذا خرجت من الأوراق إلى واقع الحياة لوجدت أن سهام الاغتيال لم تفارق جسد اللغة العربية منذ أكثر من قرن ونصف. إن الذي اختلف هو من يباشر عملية الاغتيال, ففي الماضي كان المستعمر يقوم بهذا الاغتيال ولكن بعد رحيله مكرهاً أوكل هذه المهمة لأبناء اللغة العربية ففعلوا باللغة العربية بكل كفاءة واقتدار ما لم يستطع المستعمر فعله بها. إن ما ذكر في مواثيق جامعة الدول العربية ودساتير الدول العربية وما صدر من توصيات تخص السياسة اللغوية في الدول العربية هو فقط لرفع العتب والاستهلاك الإعلامي ولكن الكارثة على اللغة العربية هو ما يجري في واقع الحياة واستعمال اللغة اليومي في الإعلام والتعليم والأسواق والشركات والمستشفيات والفنادق والمطارات وجميع مفاصل الحياة في أي مجتمع عربي!. وللقارئ أن يتساءل عن وسائل اغتيال اللغة العربية التي نجحت بيد أبناء اللغة العربية في عقر دارها؟ وعن المسؤول أو المسؤولين الذين أوصلوا حال اللغة العربية في مهدها إلى ما هي عليه الآن في دول الجزيرة العربية؟
أولاً: إحدى أبرز وسائل اغتيال اللغة العربية في دول الجزيرة العربية هي غياب سلطة حكومية تخطط لتنفيذ السياسة اللغوية الواردة ورقياً في دساتير دول الجزيرة العربية . تخلو هذه الدول جميعا من مجمع حكومي للغة العربية أو هيئة حكومية تقوم بتنفيذ السياسات اللغوية في هذه الدول. إن غياب سلطة الحكومات عن مجال اللغة فتح الباب واسعاً لكل من أراد أن ينتهك سياسة اللغة العربية الواردة في دساتير تلك الدول وميثاق الجامعة العربية وتوصيات مجامع اللغة العربية ومؤتمرات التعريب وغيرها. إن المسؤول عن غياب أو تغييب سلطة حكومية في مجال اللغة هي الحكومات التي في يدها القرار في إيجاد السلطة الحكومية وتخويلها سلطة الحكومة في مجال اللغة.
ثانياً: إن غياب نظام لحماية وترقية استعمال اللغة العربية في عقر دارها يمثل وسيلة خطيرة لاغتيال اللغة العربية, فلا يوجد نظام في جميع دول الجزيرة العربية يعاقب من يخالف السياسات اللغوية في الإعلام أو التعليم أو الحياة العامة بجميع مناحيها. إن المسؤول عن غياب نظام حماية للغة العربية هي حكومات دول الجزيرة العربية وبرلماناتها التي لها صلاحية التشريع. إن إصدار هذا النظام في يد هذه الحكومات وبرلمانات تلك الدول والمسؤولية لا تقع إلا عليهم في هذا التقصير الذي يغتال اللغة العربية عقر دارها.
ثالثا: إن إجماع النخب السياسية في دول الجزيرة العربية على السكوت المريب عما يجري للغة العربية تحت سمعهم وبصرهم من امتهان على جميع صعد الاستعمال اللغوي اليومي في الإعلام والتعليم والاقتصاد يثير الشبهات. فما يجري للغة العربية في بلدانهم يخالف دساتير دولهم ومواثيق جامعة دولهم العربية ويخالف توصيات مؤتمرات وقع عليها وزراؤهم منذ عقود, فباستثناء ما حدث في سورية والعراق قبل احتلاله لم يصدر قرار ملزم بالتعريب وحماية وترقية استعمال اللغة العربية في أي دولة عربية, بما فيها دول الجزيرة العربية منبت اللغة العربية وملاذها الأخير .
رابعا: إن الأغلبية الساحقة من النخب الأكاديمية في مؤسسات التعليم العالي في دول الجزيرة العربية هم من خريجي جامعات بريطانيا والولايات المتحدة فاستمرأوا التدريس الجامعي باللغة الإنجليزية في التخصصات العلمية والطبية والهندسية وإدارة الأعمال غير عابئين بالمصاعب التي يواجهها الطلاب الذين لا يتقنون تلك اللغة وغير مكترثين بنسب التسرب العالية من التخصصات التي تدرس باللغة الإنجليزية. وفي غياب نظام حماية اللغة العربية وغياب سلطة حكومية تنفذ السياسة اللغوية وسكوت النخبة السياسية عما تتعرض له اللغة العربية, وجدت النخب الأكاديمية المناخ الملائم لإيهام واستغفال النخب السياسية بأن التدريس الجامعي باللغة العربية سيؤدي إلى انخفاض المستوى العلمي في الجامعة, وكأن اليابان وكوريا وإسرائيل وعشرات الدول تركت لغاتها الأم لعيون نخبها الأكاديمية ودرست في جامعاتها باللغة الإنجليزية! ويبدو أن النخب السياسية والنخب الأكاديمية متشاركتان شراكة استراتيجية غير معلنة في جهود اغتيال اللغة العربية في عقر دارها.
خامسا: النخب الاقتصادية على الرغم من السياسات الورقية في الدساتير التي تنص على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية في دول الجزيرة العربية إلا أن لغة الشركات والأعمال وعقودها ومكاتباتها تتم باللغة الإنجليزية. إن كل ما يتصل بهذا القطاع الخاص من شركات وبضائع وعمالة مبيعات وصيانة ومقاولات لا يعترف باللغة العربية في عقر دارها دول الجزيرة العربية. والأدهى أن إتقان اللغة الإنجليزية تحدثا وكتابة وقراءة التي أصبحت لغة المال والأعمال والشركات والقطاع الخاص أصبح شرطا لتوظيف المواطنين في بلادهم, ومما يحزن أن هذا الشرط أصبح وسيلة لجلب مزيد من العمالة الوافدة إلى دول الجزيرة العربية وحرمان المواطن من كسب رزقه في وطنه. ومن الغرائب التي ليس لها تفسير أن جميع العمال المهاجرين يلزمون بإتقان لغة البلاد التي سيعملون فيها إلا العمال الوافدين إلى دول الجزيرة العربية حيث لا يشترط إتقانهم أو حتى معرفتهم البسيطة للغة العربية, والمستغرب أن يشترط على المواطن إتقان اللغة الإنجليزية ليصبح ذلك حجة للشركات وقطاع الأعمال لاستقدام أجانب لا يعرفون اللغة الإنجليزية ولا العربية . إن النخب الاقتصادية تمثل أكثر النخب خطورة في دورها لاغتيال اللغة العربية في عقر دارها, وذلك لاشتراطها اللغة الإنجليزية لتوظيف المواطن العربي, وفي هذا إقصاء للغة العربية عن الميدان الاقتصادي وسد سبل الرزق للمواطن وإفقاره في بلده, والأخطر من ذلك عدم توطين الخبرة والتقنية في دول الجزيرة العربية, ما يجعل اقتصادات تلك الدول عالة على الخبرة الأجنبية في جميع المجالات الاقتصادية وإلى ما لا نهاية.
ما يراد للغة العربية في دول الجزيرة العربية هو اغتيالها بإقصائها عن لغة العلوم والتقنية والبحث العلمي والنشر العلمي ولغة المال والأعمال والاقتصاد واقتصارها على لغة التدين والشعر. إن ما وصلت إليه حال اللغة العربية في دول الجزيرة العربية وعلى أيدي أبناء اللغة العربية الأقحاح ليحزن كل عربي يعتز بعروبته وكل مسلم يعتز بإسلامه. تكافح كل دول العالم لنشر لغاتها بكل ما أوتيت من وسائل وتقنيات ومع أن فرص لغتنا العربية للانتشار والنماء كلغة عالمية وإسلامية وعربية فرص هائلة, فيكفيها مليار ونصف مليار مسلم يتحرقون لإتقانها, ولكن الكارثة إن استمر اغتيال أبنائها لها في منبتها وعقر دارها.
ماذا تقول هذه النخب السياسية والأكاديمية والاقتصادية لحافظ إبراهيم؟
سقى الله في بطن الجزيرة أعظما
يـعــز عـليـهـــا أن تليـن قنـــاتـي
إن أحفاد أصحاب تلك الأعظم المدفونة في الجزيرة العربية هم من ألان قناة اللغة العربية في دول الجزيرة العربية بل هم من أثخنوها بالجراح نيابة عن الحاقدين عليها من المستعمرين ودعاة العولمة اللغوية الإنجليزية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي