القضاء السعودي.. تطوير ملكي

في الأسبوع قبل الماضي زف الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى وزير العدل خبر قيام خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بإطلاق مشروعه المسمى بـ «تطوير مرفق القضاء» في مطلع العام الجديد، وسيرافق إطلاق المشروع مؤتمر دولي يحمل عنوان «تنوع الأحكام الجنائية.. نحو تأصيل علمي للعقوبات التقديرية وتوثيقها».
ولكن يبدو أن مشروع تطوير القضاء السعودي بدأ قبل هذا التاريخ، حيث وقّع خادم الحرمين الشريفين قبل نحو شهرين مجموعة أوامر ملكية بتعيين وإعادة تعيين بعض القيادات الشابة على رأس بعض المؤسسات القضائية.
ولذلك مع مطلع العام الجديد تأتي الخطوة الأهم في تاريخ تطوير القضاء وهي أن المشروع بات يحمل اسم الملك ولم يعد مجرد خطوة تطويرية على طريق إعادة بناء السلطة القضائية، وإنما أصبح المشروع ملكياً تناط مسؤولياته بالمليك مباشرة، ولذلك فإن اقتران المشروع باسم المليك سيعطيه زخما غير مسبوق سواء على المستوى المحلي أو الدولي.
إن تطوير القضاء الآن أصبح أمراً مطلوباً ومرغوباً في هذه المرحلة التي ارتبطت فيها المملكة كثيراً مع العالم الخارجي وأصبح القضاء مصدراً للشكوى بدل أن يكون مكاناً للنزاهة والشفافية.
إن السائد في تاريخ البشرية أن البشرية دائماً متخاصمة ومتنازعة وإن الخلاف هو طبيعة إنسانية، وإن الحل الأمثل لهذه المخاصمات والمنازعات هو ساحة القضاء العادل، لذلك نستطيع أن نعرف القضاء بأنه مجموعة قواعد وأحكام لحماية الحقوق والفصل في المنازعات بالأدلة الشرعية والقرائن الموضوعية. إن الإنسان مجبول على الجشع والطمع والأنانية لذلك أرسل الله ــ سبحانه وتعالى ــ الرسل ليبينوا للناس نعمة الحق والعدل والمساواة التي ميزت الإنسان على سائر الكائنات، وأن لا فرق بينهم إلاّ بالتقوى قال تعالى: «يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق»، وقوله تعالى مخاطباً الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ـ و«أن احكم بينهم بما أنزل الله»، ويقول الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ في قصة شفاعة أسامة للمخزومية: (أيها الناس إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا يقيمون الحد على الوضيع ويتركون الشريف، والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد فعلت ذلك لقطعت يدها).
إن القضاء في الإسلام لم ينزل دفعة واحدة، بل أخذ طابع التدرج، كذلك فإن القضاء في السعودية ظل يأخذ طابع التدرج منذ عهد الملك عبد العزيز حتى عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز، وما زالت الحكومة حتى اليوم تُدخل على السلطة القضائية تنظيمات تستهدف دعم النظام القضائي وتطويره حتى يستطيع أن يتعامل مع المستجدات في الداخل والخارج ويشيع العدل والمساواة بين الناس جميعاً.
والواقع أن الحديث عن مشروع تطوير القضاء السعودي الذي يحمل اسم خادم الحرمين الشريفين لا يجب أن يمر هكذا دون أن نضعه في سياقه التاريخي الذي صدر من خلاله وفي هذه المرحلة من تاريخ المملكة، بمعنى أن مشروع تطوير القضاء السعودي يأتي في إطار منظومة سعودية يقدمها المليك إلى العالم، حيث بدأ أول مشاريعه الدولية بمشروعه العملاق حوار الأديان ليكسر شوكة العداء للإسلام التي بدأت تنتشر بشكل مخيف في كل أنحاء العالم، ثم اتجه خادم الحرمين الشريفين إلى الدول الناشئة ووقع معها اتفاقيات للشراكة، ثم انتقل مليكنا الملهم صوب نخبة من أذكى العقول في العالم وجمعهم جميعاً في رحاب جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية التي هي جامعة عالمية على أرض سعودية.
يأتي مشروع تطوير القضاء السعودي في هذا الإطار ــ وليس بعيداً عنه ــ أي أن مشروع الملك عبد الله لتطوير القضاء السعودي هو مشروع لا يستهدف تطوير القضاء السعودي محلياً، وإنما هو إعادة هندسة للقضاء السعودي محلياً ودولياً، ولا سيما أن المصالح مع العالم الخارجي بدأت تتكثف وتتشعب وبدأت المنظمات الحقوقية الدولية تعيب على النظام السعودي القضائي أنه نظام إقصائي لا يعالج القضايا مع الخارج بميزان العدل والشفافية.
إن مشروع تطوير القضاء يجب أن يكون أكبر مشروع وطني تقدمه الحكومة لإعادة هيكلة النظام القضائي برمته، لأنه مشروع لا يمس المواطن فحسب، بل يمس المواطن والمقيم والمستثمر فرداً كان أو شركة، والقضاء ـــ لكائن من كان ـــ هو في النهاية ملجأ الباحث عن العدالة والحق والإنصاف.
إن أهم الخطوات في مشروع تطوير القضاء هي رفع كفاءة القضاة ومضاعفة أعدادهم والاستعانة باستخدام التكنولوجيا ــ قدر الإمكان ــ في عمليات التقاضي وإصدار الأحكام.
إن تأهيل القاضي وتمكينه من أدوات تحليل القضايا سيمكنه من استشراف كل ملابسات القضايا ويجعله قادراً على رؤية كل الجوانب وبالتالي يصل القضاة إلى أكثر الأحكام رجاحة وعدلاً.
وفي إطار تطوير القضاء فإنه يجب أن نستمر في ترسيخ مبدأ استقلال القضاء في السعودية وهي الصفة المثلى التي جعلت للقضاء حرمة وأعطته هذا الشموخ والأبهة التي يعيش فيها، ولولا استقلال القضاء لكثرت الواسطات وهرب العدل من حيث دخلت الواسطة.
ولا ننكر أن مؤسسات القضاء السعودي خرّجت الكثير من القضاة الأفذاذ الذين يشار إليهم بالبنان وهم كثر والحمد الله, ونذكر منهم على سبيل المثال في المحكمة العامة في جدة المشايخ حماد السواط وصالح الزايدى ومحمد بن ناصر السلمي، ولكن في ظل الزيادة المقررة لعدد القضاة، فإن ما نتمناه هو مزيداً من القضاة الجدد ذوي الكفاءات العالية والملمحات الذكية التي لا تغيب عنهم مستجدات العصر.
إن دول العالم تتباهى اليوم بوجود قضاء عادل ونزيه وشامخ لديها، بمعنى أن القضاء أصبح اليوم من المعالم الحضارية التي تتباهى بها الدول العظمى، لأنه الوسيلة المثلى لتحقيق العدل في المجتمع، والدول تعرف أنه إذا تحقق العدل ساد الاستقرار في ربوع المجتمع وعم الرخاء وأصبح كل الناس إخوة متحابين في الله ومن الله سبحانه وتعالى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي