العبء المستقبلي

العبء المستقبلي

العبء المستقبلي

> مع انحسار الأزمة المالية في أمريكا، يمكن سماع الصوت الهادر للأزمة المقبلة فيها. فقد ركزت الحكومة الفيدرالية ضماناتها على البنوك وسوق الإسكان. واقترضت مئات المليارات من الدولارات لتحفيز الاقتصاد الضعيف، في حين أن الإيرادات الضريبية تنهار. وفي السنوات المقبلة، ستزيد تكلفة فوائد المتقاعدين بصورة هائلة. ويقول Kenneth Rogoff من جامعة هارفرد: ''هناك الكثير من الأسباب التي تدعو للقلق من أن تكون الأزمة المصرفية تحولت إلى أزمة دين حكومي طويل الأجل''.
ولكن ماذا سيكون نوعها: حادة أم مزمنة؟ لو كانت أمريكا سوقا ناشئة لكانت قد صادفت المتاعب على الأرجح، حيث سينسحب الأجانب من تمويل حالات عجز الميزانية المتزايدة، ولكان قد تبع ذلك تخلف عن السداد أو عملية إنقاذ. وقد أظهر العامان الماضيان أن الدول الغنية ليست محصنة ضد الأزمات الحادة. وكانت حالة أيسلندا هي الأكثر حدة: اضطر صندوق النقد الدولي إلى إنقاذ الدولة من الانهيار. وأظهرت دول أخرى أعراضا أكثر اعتدالا: خصمت أسواق الائتمان مبالغ كبيرة كانت اليونان أو أيرلندا أو إيطاليا ستتخلف عن سدادها. ولكن على الرغم من أنه لا يمكن استبعاد حدوث أزمة حادة، إلا أن أزمة أمريكا ستكون مزمنة على الأرجح. ومن المحتمل أن يكون توسعها بطيئا وانكماشيا، مما يجعل من الصعب اقتصاديا وسياسيا تخفيض الدين.
وبالطبع، لا تزال هناك احتمالية أن تثير أمريكا ذعر المستثمرين. ففي غضون شهرين، قد تكون وزارة المالية قد وصلت إلى الحد القانوني على مقدار الدين الذي يمكنها إصداره. وكما درجت العادة في أمريكا، غالبا ما يستعرض الكونجرس قبل الموافقة على رفعه. وفي عام 1996، أثار قادته الجمهوريون انزعاج الأسواق عن طريق الاستخفاف بنتائج التخلف عن السداد قبل أن يوافقوا على طلب بيل كلينتون.
ومن شأن اقتراض وزارة المالية المفرط إيجاد الكثير من الفرص لحدوث خطأ ما. ففي العامين الماضيين، قفزت نسبة الدين المستحق خلال أقل من عام من 30 في المائة إلى أكثر من 40 في المائة، وهي الأعلى منذ أوائل الثمانينيات. وفي السنة المالية التي انتهت في الـ 30 من أيلول (سبتمبر)، نظمت وزارة المالية مزاد علني أكثر من مرة يوميا في المتوسط لتمويل نحو 7 تريليونات دولار من الديون الجديدة والمستحقة. وقد يؤدي الفشل في جمع هذا القدر من المال في المزاد كما هو مخطط- كما حدث في بريطانيا في وقت سابق من هذا العام- إلى نشر الذعر في الأسواق المالية العالمية. ويقول Lou Crandall، كبير الاقتصاديين في Wrightson ICAP، شركة الأبحاث المالية: ''تستطيع دول أخرى تحمل فشل المزاد، ولكننا لا نستطيع ذلك. فماذا يمكن أن تفعل حين تحدث أزمة ثقة بالأصول الآمنة؟''.
ولكن من الصعب تحديد أي من مثل هذه المخاوف اليوم. وإذا كان هناك شيء، فإن الطلب الأساسي على سندات الخزانة آخذ في التزايد. ويشير Crandall إلى أنه في العام الماضي تضاعفت تقريبا حصة ديون الخزانة التي تم شراؤها في المزادات من قبل كبار المستثمرين والبنوك المركزية الأجنبية (وليس التجار) إلى نحو 60 في المائة. والعائد على سندات الخزانة، البالغ 3.3 في المائة، أقل مما كان عليه في آب (أغسطس) 2008، قبل أن تتسبب عمليات الإنقاذ والركود في زيادة حالات العجز المتوقعة بصورة كبيرة.
وربما تكون هناك قوى مؤقتة أخرى، مثل انعدام الاقتراض الخاص أو السياسة النقدية المتساهلة لمجلس الاحتياط الفيدرالي، تعوّض أية مخاوف بشأن حالات العجز. إلا أن Tom Gallagher، المحلل في مجموعة ISI، يقدّر أن توقعات المستثمرين للعوائد في غضون خمس سنوات، حين تتلاشى هذه العوامل المؤقتة، ليست أعلى مما كانت عليه الصيف الماضي. ويقول إن السبب ليس أن المستثمرين في السندات لا يهتمون بحالات العجز، بل لأنهم يفترضون- ربما خطأ - أن السياسيين لن يسمحوا لحالات العجز هذه أن تتحقق.
وقد تكون أمريكا أقوى دولة مقترضة في العالم، بسبب حجمها وثروتها واستقرارها القانوني والسياسي وعقدين من سداد الديون في الوقت المناسب (الاستثناء الوحيد هو إلغاء وعد عام 1933 بالسداد لبعض حاملي السندات بالذهب). ويعني هذا الاستعداد لدفع الكثير بالنسبة للمقرضين، لأنهم لا يستطيعون دفع الدول إلى محكمة الإفلاس.
وتقترض أمريكا أيضا بالعملة التي ترغب دول أخرى في الاحتفاظ بها في احتياطاتها من العملات الأجنبية. وفي أيار (مايو)، قالت Standard & Poor's إن بريطانيا قد تخسر تصنيف AAA. وتجنبت أمريكا هذا المصير إلى حد ما، كما تقول Standard & Poor's بسبب ''المرونة الخارجية الفريدة'' الناتجة عن مكانة الدولار كعملة احتياط.
وفي الآونة الأخيرة، شككت الصين ودول أخرى في هذه المكانة، حيث دعت إلى الاستخدام الأكبر لعملات أخرى أو سلة عملات مثل حقوق السحب الخاصة لصندوق النقد الدولي. إلا أن حصة الدولار من الاحتياطات العالمية من العملات الأجنبية ظلت مرتفعة. وقد انخفضت إلى 63 في المائة في منتصف عام 2009 بعد أن بلغت 72 في المائة عام 2001 بسبب انخفاض قيمته، وليس بسبب انخفاض الطلب. وكانت النسبة 59 في المائة عام 1995. وتظهر البيانات أن البنوك المركزية تشتري المزيد من الدولارات حين ينخفض ومقدارا أقل حين يرتفع، كما يقول Stephen Jen من BlueGold Capital، وهو صندوق تحوّط. ووجهة نظر محافظ البنك المركزي في كازاخستان، Grigory Marchenko، تقليدية. وستخفض دولته في النهاية حصة الدولار من احتياطاتها، كما قال الشهر الماضي، ولكن ليس لفترة طويلة: ''ولا يوجد بديل حتى الآن''.
وإمكانات حقوق السحب الخاصة محدودة بسبب حقيقة أن الحكومات فقط هي التي تستخدمها. ولا يزال اليورو جديدا ولم يتم بعد تثبيت حدود منطقة اليورو. وقد ينافس اقتصاد الصين يوما ما الاقتصاد الأمريكي. إلا أن Dino Kos، رئيس الأسواق السابق في بنك الاحتياط الفيدرالي في نيويورك والذي يعمل الآن في شركة Portales Partners للأبحاث، يشير إلى أن اليوان لا يفي بأحد أهم المتطلبات الأساسية لعملة الاحتياط: لا يمكن لدول أخرى استخدامه للتدخل في أسواق الصرف الأجنبي لأنه ليس قابلا للتحويل بحرية. علاوة على ذلك، لا تحب البنوك المركزية حالة عدم اليقين؛ ويظهر اعتقال أربعة من موظفي Rio Tinto هذا العام بتهمة سرقة أسرار الدولة (التي تم تخفيض درجتها إلى سرقة أسرار تجارية) أن النظام القانوني في الصين لا يزال متقلبا.
وستتلاشى هيمنة الدولار في النهاية؛ ولكن كما كان الحال مع الجنيه الاسترليني في القرن الماضي، سيستغرق هذا عقودا من الزمن. وبالطبع، قد تسهم السياسات الأمريكية في تسريع ذلك، خاصة عن طريق محاولة تخفيض عبء الديون من خلال التضخم. وفي آذار (مارس)، بدأ مجلس الاحتياط الفيدرالي بشراء 300 مليار دولار من سندات الخزانة لتخفيض أسعار الفائدة طويلة الأجل. وتشبه صفقات الشراء هذه عملية طبع المال، وقد أثارت مخاوف من أن يكون مجلس الاحتياط الفيدرالي يخضع السيطرة على التضخم لمساعدة الحكومة على تمويل حالات العجز. وقد قال Richard Fisher، رئيس بنك الاحتياط الفيدرالي في دالاس، لصحيفة Wall Street Journal في أيار (مايو): ''لا بد أنني سئلت عن ذلك أكثر من 100 مرة في الصين''.
إلا أن إيجاد التضخم أصعب مما يعتقد المرء. فهذا يتطلب نمو الاقتصاد بسرعة كبيرة بحيث تنخفض البطالة وتعود الشركات إلى كامل طاقتها الإنتاجية. ويقول حتى أكثر المتنبئين تفاؤلا إن هذا لن يحدث قبل سنوات عديدة. وقد يرتفع التضخم بسرعة أكبر إذا كان الشعب يتوقع تضخما أعلى. إلا أن Donald Kohn، نائب رئيس مجلس الاحتياط الفيدرالي، توقع في الآونة الأخيرة أنه من المرجح أن ينخفض كل من التضخم والتوقعات التضخمية بدلا من الارتفاع.

المشكلات بالحركة البطيئة
وباختصار، يبدو أن المحفزات التي يحتمل أن تتسبب في أزمة حادة - إضراب المقرضين أو انهيار الدولار أو التضخم - بعيدة. ولكن لا يبدو الأمر كذلك بالنسبة لضرر الأزمة المزمنة بالحركة البطيئة. فقد قفز الدين العام، الذي بلغ 37 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي قبل عامين، إلى 56 في المائة. ويعتمد مدى ارتفاعه إلى أكثر من ذلك على مدى سرعة نمو الاقتصاد: تؤدي زيادة النمو إلى تضييق العجز وزيادة الناتج المحلي الإجمالي لدعم الدين. ويتوقع البيت الأبيض أن تصبح حالات العجز ثابتة عند نحو 4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي وأن تصل نسبة الدين إلى 77 في المائة بحلول عام 2019. ويتوقع صندوق النقد الدولي، الذي يتنبأ بنمو أقل، ارتفاع العجز إلى نحو 7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي وبلوغ نسبة الدين إلى 100 في المائة. وتراوح توقعات مكتب الميزانية في الكونجرس بين هذين التوقعين.
وتؤدي الديون بهذا الحجم إلى رفع أسعار الفائدة، ومزاحمة الاستثمار الخاص، وإبطاء النمو. وفي عام 2004، كانت تقديرات William Gale من مؤسسة بروكينغز وPeter Orszag، الذي يشغل الآن منصب مدير الميزانية لباراك أوباما، تشير إلى أن زيادة بنسبة 1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في حالات العجز المستقبلية ستؤدي إلى رفع أسعار الفائدة طويلة الأجل بنسبة 0.4-0.7 نقطة مئوية. وقد أشارت حساباتهما إلى أن استمرار العجز بنسبة 3.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي سيخفض الدخل القومي بنسبة 1.2 في المائة. ويجبر ارتفاع الديون أيضا الحكومة على تحويل الإيرادات الضريبية من الخدمات العامة إلى مدفوعات الفائدة. ويقدّر مكتب الميزانية في الكونجرس أنه بحلول عام 2019 ستستهلك الفائدة على الديون الوطنية 3.8 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، أي أكثر من ضعف نسبتها في وقت سابق من هذا العقد.
وتؤدي حالات العجز الأكبر إلى زيادة أسعار الفائدة، ليس فقط من خلال التنافس على المدخرات، بل عن طريق إثارة الشكوك بشأن قدرة أمريكا على سداد المال. وتشير هيئة خدمات المستثمرين في وكالة Moody's إلى أن دين الحكومة الأمريكية، بما في ذلك ما تدين به الولايات، سيصل إلى 100 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2010، أي أعلى من دول أخرى حاصلة على تصنيف AAA. ويقول Steven Hess، المحلل في Moody's: ''إذا كان يبدو، بعد انتهاء الأزمة، أن مسار الديون سيكون تصاعديا مستمرا، فأعتقد أن التصنيف معرض للخطر''. وقد خسرت كندا تصنيفها الائتماني AAA في أوائل التسعينيات حين بلغت نسبة ديونها الفيدرالية وديون المحافظات مجتمعة نحو 100 في المائة. (استعادت تصنيفها عام 2002). وتم تخفيض درجة اليابان عام 1998 حين وصلت نسبتها إلى 115 في المائة. وخسرت إيرلندا درجة AAA هذا العام حين عرضت الأزمة المصرفية الحكومة لخطر كبير. ويشير Hess إلى أن الأزمات المصرفية غالبا ما تتسبب في تخفيض التصنيفات، كما في حالة إيرلندا في وقت سابق من هذا العام والسويد في أوائل التسعينيات، لأن الحكومة في النهاية تدعم الكثير من التزامات القطاع الخاص. وقد دعمت أمريكا ضمنيا أكبر البنوك ومعظم أجزاء سوق القروض العقارية السكنية. ويشير Hess إلى أن حالات التعرض الإضافية أقل بكثير عنها في إيرلندا. ومع ذلك، إذا تبين أن النمو ضعيف، سيواجه الشعب المزيد من الديون السيئة للقطاع الخاص.
ولن يكون تخفيض التصنيف أمرا كارثيا؛ تقترض الدول ذات التصنيف AA دون مشكلات. إلا أن أسعار الفائدة سترتفع بالنسبة للخزانة وكذلك بالنسبة لأي جهة أخرى تقترض بالدولار، بما في ذلك الشركات وحكومات الولايات. وتعني مدفوعات الفائدة الأعلى المزيد من الضغوط على العجز والديون.
ويتطلب تثبيت الديون كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي مزيجا من النمو الاقتصادي الأسرع، والضرائب الأعلى أو الإنفاق الأقل. ويمكن تحقيق ذلك. فقد وصلت النسبة إلى 100 في المائة خلال الحرب العالمية الثانية. وانخفضت لاحقا بسرعة مع تقلص الإنفاق على الدفاع، وتقدم الاقتصاد، واتخاذ صنّاع السياسة بعض القرارات الصعبة: دفع هاري ترومان تكاليف الحرب الكورية عن طريق رفع الضرائب. وفي العقود الأخيرة، عادت بعض الدول الغنية المثقلة بالديون إلى صحتها دون اللجوء إلى التخلف عن السداد أو التضخم، خاصة كندا والدنمارك والسويد.
ولا توفر هذه الفترات شعورا بالراحة لأمريكا الآن. فميزانية الدفاع الخاصة بها صغيرة جدا، كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، بحيث لا تسهم بصورة كبيرة في تخفيض العجز. وقد بدأت كل من كندا والسويد بقطاعات عامة كبيرة ثم قلصتها؛ ويشير Rogoff إلى أن القطاع العام في أمريكا آخذ في التوسع. والأهم من ذلك هو أن تخفيض قيمة العملة والصادرات القوية عززت النمو في حين خفضت العجز. وعلى العكس من ذلك، فإن الصادرات الأمريكية أقل بكثير مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي ولا يزال بقية العالم في صحة سيئة. وقد وفر انخفاض أسعار الفائدة رياحا مواتية لتخفيض العجز في جميع الدول في الثمانينيات والتسعينيات مع تلاشي مخاوف التضخم التي تراكمت على مر العقود السابقة. وأمريكا أكثر عرضة لكي تشهد العكس بما أن أسعار فائدتها منخفضة جدا أصلا.
ولعل مثال اليابان أكثر أهمية. فقد أدت الأزمة المصرفية الطويلة التي بدأت في أوائل التسعينيات والنمو البطيء والانكماش وخطط الحوافز العديدة إلى رفع نسبة ديونها بصورة كبيرة؛ ولا تزال آخذة في الارتفاع. ولا تزال أسعار فائدتها منخفضة، ويعود ذلك أساسا إلى كون اليابان تقترض بالكامل تقريبا من مواطنيها في حين أن نصف ديون أمريكا مستحقة لأجانب. وقد حاولت اليابان الحد من ديونها عن طريق رفع الضرائب عام 1997؛ ولكنها قضت على الفور على الانتعاش.
وتوضح تجربة اليابان المعضلة المعقدة التي تواجه صنّاع السياسة الأمريكيين. ويعترف البيت الأبيض بأن حالات العجز التي يتوقعها مرتفعة جدا. إلا أن خفض الإنفاق أو رفع الضرائب بصورة مبكرة قد يخنق الانتعاش ويزيد حالات العجز في أمريكا. وحين سأل تيم غيثنر، وزير الخزانة، في 15 من تشرين الأول (أكتوبر) متى ستعالج الإدارة العجز؟ قال: ''أولا، النمو'' >

الأكثر قراءة