النطق بالأحكام وقضاء الأوراق التجارية
النطق بالحكم القضائي – كما يعرفه فقهاء قانون المرافعات – هو تلاوة الحكم بصوت عال في الجلسة. وللنطق بالحكم عند فقهاء القانون أهمية كبيرة، فالحكم قبل النطق به لا يوجد قانونا حتى ولو كتبت مسودته، فهو في هذه الحالة مجرد مشروع يجوز للمحكمة أو أحد أعضائها العدول عنه، أما إذا تم النطق بالحكم فإنه يصبح قائما وموجودا ويعتبر حقا للمحكوم له.
وعلى غرار قوانين المرافعات المقارنة حدد نظام المرافعات الشرعية السعودي قواعد النطق بالحكم، فقررت المادة 163 من هذا النظام بأن (ينطق بالحكم في جلسة علنية بتلاوة منطوقة أو بتلاوة مع أسبابه. ويجب أن يكون القضاة الذين اشتركوا في المداولة حاضرين تلاوة الحكم، فإذا حصل لأحدهم مانع جاز تغيبه إذا كان قد وقع على الحكم المدون في الضبط).
وبعد النطق بالحكم تصدر المحكمة صك الحكم حيث نصت المادة 164 من نظام المرافعات الشرعية على أنه (بعد الحكم تصدر المحكمة إعلاما حاويا لخلاصة الدعوى والجواب والدفوع الصحيحة وشهادة الشهود بلفظها وتزكيتها وتحليف الإيمان وأسماء القضاة الذين اشتركوا في الحكم واسم المحكمة التي نظرت الدعوى أمامها وأسباب الحكم ورقمه وتاريخه مع حذف الحشو والجمل المكررة التي لا تأثير لها في الحكم).
ثم قررت المادة 165 من النظام المذكور بأنه (يجب على المحكمة بعد النطق بالحكم إفهام الخصوم بطرق الاعتراض المقررة لهم ومواعيدها. كما يجب عليها إفهام الأولياء والأوصياء والنظار ومأموري بيوت المال وممثلي الأجهزة الحكومية في حال صدور الحكم في غير صالح من ينوبون عنه أو بأقل مما طلبوا: بأن الحكم واجب التمييز وأن المحكمة سترفع القضية إلى محكمة التمييز''.
وإذا حدث اختلاف بين نص منطوق الحكم الذي تم النطق به وتدوينه في دفتر الضبط ومنطوق الحكم المدون في صك الحكم، فإن الحكم يصبح في هذه الحالة باطلا وجديرا بالنقض لأنه يجب أن يدون في الصك ما تم النطق به دون زيادة أو نقصان أو تعديل، وقد أكدت هذا المعنى محكمة الاستئناف في ديوان المظالم في حكمها رقم 395/1س/7 لعام 1430هـ.
وبعد هذا البيان الوجيز لأهمية النطق بالحكم، أنتقل إلى تسليط الضوء على موقف الجهات المختصة بالفصل في منازعات الأوراق التجارية حيال موضوع النطق بالأحكام. ويحسن أن أشير في البداية إلى أن الاختصاص في منازعات الأوراق التجارية معقود في الوقت الحاضر لمكاتب الفصل في منازعات الأوراق التجارية المكونة بقرار من وزير التجارة استنادا إلى صلاحياته المنصوص عليها في نظام الأوراق التجارية الصادر بالمرسوم الملكي رقم 37 وتاريخ 11/10/1383هـ. كما أصدر وزير التجارة قرارا برقم 918 وتاريخ 22/3/1407هـ يقضي بإنشاء لجنة قانونية في وزارة التجارة تكون مهمتها الفصل في التظلمات المقدمة من ذوي الشأن ضد قرارات مكاتب الفصل في منازعات الأوراق التجارية، وتكون قراراتها نهائية بعد تصديق وزير التجارة عليها.
إن اللجنة القانونية نقضت بعض قرارات مكاتب الفصل في منازعات الأوراق التجارية لأنه لم يتم النطق بها في جلسة علنية، وأضرب على ذلك مثلا بقرار اللجنة المذكورة رقم 77/1409 وتاريخ 7/4/1403هـ الصادر في القضية رقم 60/1407 حيث جاء فيه ما يلي:
(ومن حيث إن المادة (1) من قرار معالي وزير التجارة رقم 859 وتاريخ 13/3/1403هـ بشأن إجراءات الفصل في منازعات الأوراق التجارية تنص على أن فيما لم يرد فيه نص في هذا القرار تطبق الجهة المختصة بالفصل في منازعات الأوراق التجارية في أعمالها الأحكام المنصوص عليها في الفصل الخامس حتى الفصل التاسع وكذلك الفصل الثاني عشر من الباب الثالث من نظام المحكمة التجارية).
وحيث إن المادة 512 من نظام المحكمة التجارية تنص على أن ''بعد إتمام قرار الحكم سواء كان باتفاق الآراء أو بالأكثرية يمضى عليه من الهيئة التي حكمت به ويؤرخ ثم يفهم شفهيا للطرفين من طرف الرئيس''.
وحيث إن مؤدى هذا النص أنه يجب أن ينطبق بالقرار في جلسة علنية وأن يفهمه عضو مكتب الفصل في منازعات الأوراق التجارية للخصوم وإلا كان باطلا.
وحيث إنه بالاطلاع على ملف الدعوى تبين أن عضو مكتب الفصل في منازعات الأوراق التجارية قرر في جلسة 17/10/1408هـ رفع القضية لإصدار القرار بجلسة 3/1/1409هـ إلا أن عضو المكتب لم يعقد جلسة للنطق بالقرار في هذا اليوم، كما خلا ملف الدعوى من مسودة القرار الموقعة من عضو المكتب الذي أصدره، ومن ثم فإن القرار المتظلم منه يكون قد شابه عيب جسيم يؤدي إلى بطلانه''.
وحيث إنه لم تقدم فإن هذه اللجنة ترى إلغاء القرار المتظلم منه وإعادة القضية إلى مكتب الأوراق التجارية في جدة لنظرها من جديد.
بهذا القرار ومن تلاه من قرارات أخرى مماثلة في هذا الشأن رسخت اللجنة القانونية أهمية وضرورة قاعدة النطق بقرارات مكاتب الفصل في منازعات الأوراق التجارية في جلسات علنية. بيد أن اللجنة لم تعد في الآونة الأخيرة متمسكة بهذه القاعدة وبدأت تتراجع عنها، حيث تسنى لي الاطلاع على قرار حديث أصدرته برقم 431/30 وتاريخ 23/5/1430هـ أشارت فيه ضمن وقائع القضية إلى طعون المدعي في قرار مكتب الفصل في منازعات الأوراق ا لتجارية في جدة ومنها أنه صدر دون أن ينطق به عضو المكتب المذكور في جلسة علنية، ولكنها لم تلتفت إلى هذا الطعن ولم تناقشه وقررت تأييد قرار المكتب المذكور.
وفي تقديري أنه كان يجب على اللجنة القانونية أن تتحقق من صحة الدفع بعدم النطق بالقرار المتظلم منه في جلسة علنية فإن وجدته غير صحيح قضت برفضه وإن وجدته صحيحا حكمت ببطلان القرار المتظلم منه. ولذلك فإن عدم التفات اللجنة القانونية في حيثيات قرارها إلى هذا الدفع يجعل قرارها في تقديري مشوبا بالقصور المبطل لأن عدم النطق بالقرار في جلسة علنية يتعارض مع أحكام نظام المحكمة التجارية وأحكام نظام المرافعات الشرعية، فضلا عن أنه لا يتفق مع السوابق القضائية التي أقرتها اللجنة القانونية ذاتها في هذا الشأن.