الصحيح أم المُريح؟

يولد الإنسان فتبدأ رحلة حياته وهو خلي العقل, فلا معتقدات ولا قناعات ولا مبادئ يؤمن بها...ثم يشرع في اكتساب بعض ذلك سواء بالتلقين أو بالاقتداء بوالديه ومن حوله, ثم يصل لمرحلة يُكَوِن قناعاته الخاصة بناء على تجاربه الفردية والمجتمع الذي يعيش فيه..كل هذا طبيعي ويمر به الجميع,ولكن يأتي يوم على هذا الإنسان يضطر فيه لمراجعة بعض ما اختُزِن لديه من قناعات لأنها تصادم الحقيقة(على افتراض أنه يعي الحقائق)..مثلا قد يكون س من الناس تَرَبى طوال حياته واقتنع بدونية شريحة ما من البشر لسبب أو لآخر: عرق,لون,قبيلة ..ولم يفكر يوما في موقفه هذا كما لا يفكر في حاجته للنوم لأنه شيء بدهي لا يشك فيه إلا مجنون.ثم أتى يوم واكتشف هذا الشخص بطلان قناعته تلك – بسبب معاشرته هذه الشريحة مثلا – فيغير موقفه ويبدل معتقده..قصة جميلة أليس كذلك؟فالحق ينتصر على الباطل في النهاية..نعم, ولكن هل هذا السيناريو ينطبق على الكثير من الناس؟هل يراجع الناس فعلا قناعاتهم إذا ما ظهر لهم دليل على عدم صحتها؟وهل الحقيقة أصلا هي مقياس كثير من الناس في قبول أو رفض أي فكرة؟
لا شك أن بعض الناس كذلك ,ولكن يبقى الكثيرون يتشبثون بقناعاتهم مهما ثبت لهم عكسها,وتجدهم يدافعون عنها بشراسة وإصرار (إصرار كان يمكن أن يثير الإعجاب لولا أنه على باطل) ,كما تجد آخرين يميلون دوما للاقتناع بالفكرة الأسهل أو الأريح أو الأكثر فائدة لهم (الفائدة بمفهومها الضيق قصير النظر) بغض النظر عن صحتها أو خطئها..
ما أهمية ذلك؟ وما المشكلة في أن يتبنى الشخص أي قناعة تستهويه دون النظر إلى قربها من الحق؟ قد تبدو هذه الأسئلة غريبة للبعض, ولكنها مهمة وحيوية لآخرين تُشكِل عليهم هذه القضية..والجواب في الحقيقة بسيط جدا: أليس هناك فرق جوهري في نوعية الحياة والنظرة لها بين من يؤمن بالآخرة والحساب وآخر لا يؤمن؟ بالتأكيد نعم..وحتى على مستوى أبسط من ذلك, فلنقل مثلا إن فلانا لديه قناعة بأن الناس في العموم أخيار, لا يؤذون بعضهم ولا يخونون ولا يضمرون الشر إلخ..قناعة رومانسية وجميلة, والأهم أنها بالنسبة له مريحة مع أنها لا تغير من الواقع المختلف شيئا, وهو في النهاية ـ وكما يحب أن يردد البعض كثيرا ـ حر في اختياره لقناعاته.نعم,لا شك في ذلك..ولكن ليست قضيتنا هنا حريته من عدمها, ولا هذا سؤالنا, بل السؤال هو: هل تبنيه هذه القناعة غير الصحيحة وغير الواقعية مفيد أو مضر بالنسبة له ؟ ألن يجعله ذلك يقع في مآزق كثيرة وخطيرة لن يتعلم منها كما ينبغي ما لم يعدل قناعاته؟
الجواب واضح,فكل إنسان يريد أن يحيا حياة طيبة في الدنيا (وفي الآخرة للمسلم), ولا يمكن أن يكون ذلك بلا تصحيح للقناعات والمعتقدات التي لا بد أن تنعكس على سلوكه وتقييمه للأمور وعلى خياراته في الحياة. وهذا التصحيح يعني أن هناك حقيقة ينبغي أن يكتشفها و يبحث عنها, فيُكَيِف قناعاته معها فيصبح بذلك إنسانا سويا يتعامل مع الواقع كما هو وليس كما يتمناه أو يتخيله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي