الأوراق النقدية ..الخوض في العلم بلا علم
كتب الدكتور حمزة السالم مقالات متعددة في جريدة ''الاقتصادية'' المتميزة حول الأوراق النقدية المعاصرة وحكمها، وانتهى فيها إلى أن الربا لا يجري فيها، ويلزمه ألا تجب الزكاة فيها، واستدل لذلك بأدلة وأقوال. وهذا مناقشة ورد مختصر لحكمه:
1. القول إن حكمَ الأوراق النقدية حكمُ الذهب والفضة، في جريان الربا فيها والدليل القياس الصحيح، والعلة مطلق الثمنية. فربا الفضل لا يجوز، وهو بيع نفس الجنس منها بمثله متفاضلاً، ريال سعودي بمثله متفاضلا. وربا النسيئة لا يجوز، وهو بيع الأجناس المختلفة منها نسيئة، ريالٌ سعوديٌ بجنيهٍ مصريٍ بأجل، بل لا بد من التقابض. وربا القرض لا يجوز، باقتراضها إلى أجل بزيادة، ألفُ ريال بـ 1200 مثلا، لاجتماع الزيادة والأجل. هذا القول هو قول المشايخ: مفتى المملكة واللجنة الدائمة للإفتاء وهيئة كبار العلماء والمجامع الفقهية والشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين والشيخ صالح الفوزان وعامة المشايخ.
2. قال صلى الله عليه وسلم: ''بين يدي الساعة يظهر الربا، والزنى، والخمر'' رواه الطبراني، قال المنذري: رواته رواة الصحيح، وصححه الألباني. وقال صلى الله عليه وسلم: ''ليأتين على الناس زمانٌ لا يبقى منهم أحدٌ إلا أكل الربا، فمن لم يأكله، أصابه غباره'' رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، والحاكم. قال الذهبي: سماع الحسن من أبي هريرة بهذا صحيح، وصححه الشيخ أحمد شاكر. وأظن أن الساعة قريب، قد اقتربت، وظهر كثيرٌ من أشراطها. فيلزم الدكتور حمزة - هداه الله - من قوله بعدم وقوع الربا في الأوراق النقدية، قلة الربا وعدم ظهوره في هذا الزمان، وهذه معارضة لخبر الصادق.
3. قال في مقال له: ''إذن فعند الظاهرية والمشهور عن الأئمة الأربعة أنه لا يجري الربا في النقود الورقية المستعملة اليوم''. والحق أنَّ مسألة الأوراق النقدية مسألةٌ حديثةٌ ليس للسلف قولٌ فيها، ولا يصح نسبةُ القول بعدم جريان الربا وعدم وجوب الزكاة فيها للفقهاء المتقدمين، لأنهم حكموا بذلك على الفلوس في زمنهم. وكذلك لا يصح إلزام من شبهها من المعاصرين بالفلوس، بحكم الفلوس عند المتقدمين فالتشابه والتماثل بين الفلوس والأوراق النقدية ليس من كل وجه، بل بينهما اختلافٌ جوهريٌ أوجب الاختلافَ في الحكم. فالفلوس عملة فرعية اختيارية للأشياء الرخيصة، ولا تُملك بها ثروةٌ إلا عند مَن أعدها للتجارة، يُقال أفلس فلان إذا كان ما يملكه الفلوس. والأوراق النقدية اليوم عملةٌ رئيسية إلزامية، ومقياس الثروة ما يُملك من الأوراق، فالمليونير من ملك الملايين، فالبون بينهما كبير مؤثر في الحكم. وقد تنبه الشيخ محمد بن إبراهيم إلى ما قد يؤول تشبيهها بالفلوس، فجهَّل هذا القول، سداً للذريعة.
4. أموالُ الناس اليوم في الغالب هي الأوراق النقدية، وبها تقوم الأشياء، وبها البيع والشراء، وبها القرض والاقتراض. فإذا جعلت عروضاً تعطلت الزكاة، وحُرم زيدٌ الفقير من حقه فيها، ووقع الظلم بالربا، وتعطلت الصناعات والتجارات والزراعات. فقول الدكتور حمزة عند أكثرِ العلماء، وكلِ من نرتضيه منهم، خطأُ يوقعُ الناس في ترك الزكاة، وهي ركنٌ من أركان الدين، وخطأٌ يوقع في الربا، وهو كبيرة من أكبر الكبائر، وحربٌ ومحقٌ من الله. وهذا ليس إرهابٌا فكريا، كما قد تقول، ولكن شفقة ورحمة وتخويف من العذاب.
5. قال في مقال له: ''لا ربا ولا زكاة اليوم في الذهب والفضة هو لازم الفتوى المعتمدة الآن''. ويلزمه أن يلزم شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الإلزام. وهذا خطأٌ بينٌ، وسوءُ فَهمٍ منه، فالحكم بوجوب الزكاة، وجريان الربا، في الذهب والفضة، جاء من النصوص الصريحة لا من القياس. وتفصيل ذلك أن الدكتور حمزة يقول لأهل الفتوى: قلتم العلة في الذهب والفضة مطلق الثمنية، وهي متحققةٌ في الأوراق النقدية، فأوقعتم الربا فيها. ومطلقُ الثمنية اليوم غير متحقق في الذهب والفضة، فلم تعد ثمناً للأشياء، بل سلعة من السلع، فيلزمكم أن لا ربا ولا زكاة فيها لعدم وجود العلة فيها. ففاته أن الحكم بالزكاة والربا فيهما مستفادٌ من النص الصحيح الصريح، لا من القياس، فوقع في هذا الخلط والخطأ. والظن بك عدم القول بانتفاء الحكم من الأصل إذا انتفت العلة فيه، فإذا زال الظلم في رأي فلان من الربا صح، وإذا زال الإسكار من الخمر حلت، وإذا لم تتحقق التقوى من الصوم فلا صوم، والنهي عن الفحشاء من الصلاة فلا صلاة.
6. كلٌ يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعلماء يجتهدون، فمنهم من يصيب وله أجران، ومنهم من يخطئ وله أجر، ومنهم منتسبٌ لهم يقول بجهل وهوى فله الوعيد بالنار. والناس مأمورون بسؤال العلماء، وأخذ دينهم من الأعلم والأتقى، ولا يجوز لهم التخير بين الفتاوى. روي عن إسماعيل بن إسحاق القاضي قال: ''دخلت على المعتضد فدفع إليَّ كتابًا نظرت فيه، وكان قد جمع له الرخص من زلل العلماء وما احتجَّ به كلٌ منهم لنفسه، فقلت له: يا أمير المؤمنين مصنف هذا الكتاب زنديق، فقال: لم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رويت، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسكر، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذَ بها ذهب دينه، فأمر المعتضد فأُحرق ذلك الكتاب'', وقال الأوزاعي: ''مَن أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام'', وقال سليمان التيمي: ''إذا أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله''، وقال الإمام أحمد: ''لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة، كان فاسقا''.
7. قال صلى الله عليه وسلم: ''الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام''. فإن سلمنا جدلاً للدكتور حمزة ـ هداه الله ـ أن هذه المسألة من المتشابه، فتوجيه رسولنا لنا أن نتقيها، لأن الوقوع فيها موقع في الحرام.
8. الاحتجاج بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما خُيِّـرَ بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، احتجاجٌ في غير محله. فالمراد إذا خُيِّر بين القصر والإتمام، والفطر والصيام، في السفر، اختار الأيسر. أما بين الحلال والحرام، فأبعد الناس عن الحرام. وأما المتشابهات، وهو لا يشتبه عليه شيء من الأحكام، فقد وجه الناس بالابتعاد عنها.
9. الاستدلال بفتوى هيئة كبار العلماء، والشيخ محمد بن إبراهيم، في جواز بيع الحيوان بالحيوان متفاضلاً، استدلالٌ في غير محله. فحكمُ التفاضل في الحيوان المنصوص عليه، ليس كحكم التفاضل في النقدين المنصوص عليه. والأوراق تلحق بالنقدين قياساً، لا بالحيوان. لذا كانت فتوى هيئة كبار العلماء، والشيخ محمد بن إبراهيم، هي وجوب الزكاة وجريان الربا، في الأوراق النقدية. بل قال الشيخ محمد بن إبراهيم: ''ولا أفتى بهذا إلا بعض الجهال، فإذا جعلت - الأوراق النقدية - عروضاً، والمال محبوب، تركت الزكاة''.
10. قال الدكتور حمزة - هداه الله: فعندما تتمول كبار الشركات من البنوك أيُعد هذا عقد قرض من باب التبرعات، أم عقد بيع من باب المعاوضات المحضة؟ وعندما يودع زيدٌ المسكين وديعة في البنك بعائد ثابت أو متغير، أو يستثمر في استثمار ضامن لرأس المال، أيُعد زيد المسكين مقرضا للبنك؟ وأقول: الجواب بمعرفة الفرق بين القرض والبيع، فالقرض هو دفع مال لمن يستفيد منه ثم يرد بدله إليه، وهو إحسان من المقرض، فإن اشترط زيادة في المال صار ظلماً، ورباً حراماً. والبيع هو مبادلة مال ولو في الذمة، أو منفعة مباحة، بمثل أحدهما على التأبيد. فإن كان هذا البيع مالا بمال، فيشترط فيه ألا يكون المالُ مالاً يجري فيه الربا نصاً، كالذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح، أو قياساً كالأوراق النقدية. فسواءٌ سميت هذا العقد بين البنك والشركة، أو البنك وزيدٍ المسكين، قرضاً أو بيعاً، فقد وقع طرفاه في ربا القرض أو ربا البيع. ثم هل يشترط تحقق الظلم في كل قرض ربوي، أو بيع ربوي، للحكم عليه بالحرام، وهل إذا أودع زيد المسكين ذهباً في البنك بعائد ثابت صار فعله حلالا؟ والواقع المشاهد أن هذا النظام المالي الربوي يؤول إلى الظلم وإلى تعطيل النشاط الاقتصادي، كما يعترف بذلك أهله. وأموال زيد المسكين وأمثاله سيقرضها البنك لعمرو المسكين وأمثاله ولأمم فقيرة، ويأخذ من عمروٍ أكثر مما أعطى زيدا.
11. قال الدكتور حمزة: ''ومن تبعات الصيرفة الإسلامية – القول بجريان الربا في الأوراق النقدية - تفسيق غالب المسلمين، وولاة أمورهم، وقذفهم بجريمة الربا، وتزويد فكر الخوارج بالأطروحات الفكرية''. فما أسمج هذا الدليل، وأضعفه، وأبعده عن النصيحة والشفقة بالمسلمين، وولاة أمرهم. فهل من النصيحة للمسلمين وولاة أمورهم أن يُحلِّلَ لهم المفتي وكبار العلماء الحرام، حتى لا يقع الغلاة في التكفير؟
12. الاستدلال ببعض الممارسات الخاطئة والحيل المحرمة من بعض المصارف الإسلامية، لا يصح لتحليل الربا, بل الواجب تنظيم هذه المصرفية الإسلامية، وتوفير الضمانات المناسبة لها، والتدخل لوضع بعض الأنظمة والحدود والضوابط لها، حتى تحقق المرجو منها للأفراد والمجتمعات.
والخطر في قوله ليس لقوة حجته، بل لموافقته الهوى، ومحبة الناس للمال، وحرصهم عليه، وشحهم به. هذا ما أردت المشاركة به نصيحة للمسلمين، وللدكتور حمزة، والله المستعان وعليه التكلان، وصلى الله وسلم على رسوله وآله وصحبه.