إعلام المعين لوظيفة عامة بواجبه وصلاحيته وأخلاقيات الوظيفة المعين لها
(يا ابن مسعود اجلس للناس طرفي النهار واقرئهم القرآن وحدث عن السنة واحرص على ما سمعت من نبيك ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا تستنكف إذا سئلت عما لا تعلم أن تقول لا أعلم، وقل إذا علمت واصمت إذا جهلت. واقلل الفتيا فإنك لم تحط بالأمور علماً وأجب الدعوة ولا تقبل الهدية وليست بحرام ولكني أخاف عليك القالة والسلام).
رسالة لا يتجاوز عدد كلماتها ما يوضع كتقديم لموضوع وجهها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب إلى عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنهما ـ لما ولاه القضاء. وعلى الرغم مما بها من إيجاز شديد فقد تضمنت أموراً مهمة:
أولها: أن الواجبات المطلوب القيام بها قد حددت بشكل دقيق (اجلس للناس أي للقضاء بين الناس، وأقرئهم القرآن وحدث عن السنة)، ويظهر من ذلك أن ابن مسعود قد كلف بواجبين عظيمين هما القضاء وتعليم القرآن والسنة وقد يسأل سائل عن علاقة القضاء بالتعليم ! ولا أرى ذلك إلا فطنة إدارية فذة من عمر رضي الله عنه، فقضاء المسلمين مستمد من دينهم الذي هو عماد حياتهم الدنيوية كما هو سبيلهم إلى حياتهم الأخروية.
ولما في علم المسلم بأمور دينه من مصادره الأساسية، القرآن الكريم والسنة المطهرة، ما يعينه على معرفة حقوقه وحقوق غيره من المسلمين، مما يقود إلى تجنب الوقوع فيما يوجب التقاضي، فقد رأى عمر ـ رضي الله عنه ـ أن يتولى العارف بالأحكام الشرعية أمر الفصل في القضايا.(وهذا إجراء علاجي). فالتعليم والإرشاد إلى حدود الله - سبحانه وتعالى - كما وردت في القرآن الكريم والسنة المطهرة يعين المكلفين على تجنب الوقوع في الخطأ وما يجر إليه ذلك من وبال على المجتمع وما يقود إليه من الانشغال بالتقاضي عن أمور دينهم دنيا وآخرة (وهذا إجراء وقائي).
لقد رسمت هذه الواجبات بشكل جلي. (.. واحرص على ما سمعت من نبيك.. فإنك لم تحط بالأمور علماً).
ثانيها: أن لكل وظيفة أخلاقيات عدم مراعاتها يخل بالصورة الحسنة للعمل وعامل، حتى وإن كان من بين تلك الأمور ما هو مباح أو متعارف عليه في مجال عمل آخر، (.. وأجب الدعوة ولا تقبل الهدية.. أخاف عليك القالة ) إذ إن تلك الهدية قد لا تكون خالصة لوجه الله بل لما يرجى من ورائها من التقرب ولو لم يكن ابن مسعود في منصب القضاء لما قدمت إليه هذه الهدايا.
ثالثها: تحديد ساعات أداء العمل بما يناسب أصحاب الحاجة خصوصاً أن هذا العمل يقدم للعامة وفي مجال له حساسية خاصة ''اجلس للناس طرفي النهار''.
وقبل ذلك كله فقد تم اختيار الرجل المناسب علماً وقدرة وخلقاً. وعلى الرغم مما كان عليه ابن مسعود من العلم والدراية فلم يكتف الخليفة بذلك بل وضح له ماهو مطالب به ليكون العلم بذلك مشتركاً بينهما مما يسهل على المكلف (بكسر اللام) مراقبة المكَّلف ومحاسبته. وفق ذلك فقد كانت تلك رسالة مكتوبة (تمثل خطاب التعيين) ولم تكن تعليمات شفهية بعضها قابل للنسيان أو سوء التفسير، ولنا في ذلك قدوة حسنة.