عقبال الـ 11 شهرا الأخرى

فلنكن صرحاء! فبعض منا – خلال 11 شهرا في السنة – قد لا يقرأ كتاب الله العزيز إلا في مناسبات معينة ومتباعدة، وطبعا في الصلاة وبعدد من السور القليلة التي لا تتغير لأنه لا يحفظ غيرها. ولعل هذا من رحمة ربي أن جعل لنا هذا الشهر الواحد الذي يهرع فيه أغلب الناس لكتابه، فلا يكون عامهم كله عبثا.
واعذروني، فليس الهدف هو النقد، فكلنا مقصر وكلنا يرجو التوبة، لكن القصد هو التفكر في أُثر هذا الكتاب المعجزة على نفس وحياة الفرد، وصولا إلى قصد ثان نقوله لاحقا.
فالحياة مليئة بالمشاق، أليس كذلك؟ والنفس تموج بالخواطر والوساوس والأماني التي تُلفي الحكيم حيرانا. وفي غمرة كل ذلك، يبحث الإنسان دوما عن إجابة، أو لفتة مُطَمئِنة، أو رأي سديد يعينه، وقد يجد شيئا يسيرا من هذا في كتاب يقرأه أو لدى شخص يثق به. وبالتأكيد فإن هذا من سنة الحياة: أن نستفيد من تجارب الآخرين أيا كانوا ما زالوا يقولون حقا. ولكن تخيلوا شخصا أبوه من جهابذة علماء الرياضيات مثلا، وهذا الشخص لديه مسألة في هذا العلم فيجوب الأرض بحثا عن حلها.. أين؟ لدى تلامذة أبيه!! فلم يفكر أن يلجأ لوالده (الذي يسكن معه في نفس البيت) ليسأله، أفليس ذلك من قلة العقل؟ أم هو نوع من الكبر المُستَغنِي؟
ولله المثل الأعلى، وأدعو ألا أكون قد تجاوزت بهذا المثل، ولكن المقصود هو أن هذا القرآن الذي هو كلام الله المباشر لنا، والذي فيه العلم والتربية وعلة الوجود ومنهج الوجود ومُنتهى الوجود ومعنى التاريخ وإلخ.. هذا الكتاب الرحمة فيه تبيان كل شيء.. نعم.. وقبل أن يقول قائل: وماذا عن العلوم والمعارف الأخرى، هل نتركها ولا نقرأ إلا القرآن؟ نبادره فنقول: رويدك، فلا يُفهَم هذا أبدا حيث إن القرآن نفسه يدعونا للتعلم والتفكر.. إنما نعني أن كتاب الله فيه تبيان لكل الأصول والأسس التي تقوم عليها حياة البشر، وما سوى ذلك تفاصيل وشروح واستفاضات. ضرورية؟ بلا شك.. ولكنها خالية عن شمولية كلام الله ـ عز وجل ـ كما عن عصمته واستفراده بالحق الخالص..فما المشكلة إذن؟ ما الذي يعيقنا عن الاستفادة الحقة من آيات الله سبحانه وتعالى؟
المشكلة أن بعضنا لم يتعلم كيف يتدبر القرآن، وكيف يحافظ على علاقة مستمرة معه تفضي مع الزمن إلى نور وفهم ينعكس على سلوك الإنسان وتفكيره وقلبه. كما لم نتعلم كيف نستشيره ليلقي لنا الضوء على ما نواجهه في حياتنا اليومية ويرد لنا التوازن في منظورنا للحياة. فهو في كثير من الأحيان كتاب نتعبد به دون أن نربطه بواقعنا.فإذا قرأنا مثلا: «وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى» لم تقشعر جلودنا ونحن نتذكر كم مِن مرة قُلنا وظلمنا أو اعتدينا في القول، فنَمُر على الآية وكأن المخاطَب قوم مضت عليهم القرون.. أو ربما أناس معاصرون ولكن ليس نحن بالتأكيد.. والنتيجة أننا سنغلق المصحف من هنا، ونعود لطبعنا الأول في جور الكلام وكأننا ما قرأنا.فما الذي سيحدث إن قرأنا هذا الكتاب لنتعلم كيف نحيا؟ سنفهم ماذا يريد الله ـ عز وجل ـ لنا، وسنعرف المنهج الحق الذي يضبط تعاملاتنا وسلوكنا، وستتكون لدينا بوصلة داخلية – تَزداد دقة كلما استمررنا – تُفَرق بين الحق والباطل والضار والنافع. ومن خلال ذلك سنجد أن منظورنا لحياتنا سيعتدل فنمسي أكثر اطمئنانا وأكثر فعالية. وفي هذا الشهر الفضيل الذي تعظُم فيه فرصة إدراك هذا الشعور أو لمحة منه على الأقل، يشعر الإنسان أنه بحاجة إلى أن يَثبُت على صِلَته بالقرآن حتى بعد رمضان، لأنه يتحسر على أن يُضيع هذه الآثار الرائعة على حياته ونفسه، وعسى الله أن يعيننا على الـ 11 شهرا الباقية من السنة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي