الاقتصاد والمحللون .. ومعضلة الوقت والتوقيت!
في الأزمات الاقتصادية يهتم كثير من المحللين بأمرين ألا وهما ''الوقت'' و''التوقيت''! الوقت يتعلق بمراحل التقلب الاقتصادي العامة وليس الدقيقة, من ركود إلى تعاف ومن تعاف إلى نمو, في حين يهتم المحللون خلال الانتقال بين هذه المراحل بمسألة التوقيت لاتخاذ قرارات اقتصادية وتجارية من شأنها تحقيق فوائد كبيرة إذا تمت عملية التوقيت بشكل دقيق. غير أن التوقيت يرهق المحللين أكثر من الوقت, فوقت الانتقال من مرحلة إلى أخرى يتباين ويختلف من أزمة اقتصادية إلى أخرى, فهناك أزمات تبدأ متباطئة يمكن التنبؤ بها مسبقا, وهناك أزمات تكون مفاجئة وسريعة في تهاويها, وهناك أزمات يكون التعافي فيها بطيئا, شديدا ومؤلما جداً. أهمية التوقيت تكمن في مقدرة الاقتصاد وكل ما يحويه من شركات وبنوك ومؤسسات في انتهاز الفرص التي, إن صح التوقيت, قد تكون مصيرية في تمكينها من المنافسة بشكل قوي بعد الأزمة إلى درجة تغيير المعادلة التنافسية التي قد لا تتغير بشكل كبير إلا خلال الأزمات, ما يجعل من الأزمات بحق فرصا لمن أحكم التوقيت وامتلك الموارد التي تمكنه من استغلالها.
في تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي كانت الأزمة الحالية في بدايتها وكان يحتوي الكثير من الساسة والاقتصاديين في حكومات العالم ما يشبه الدوخة وعدم التأكد مما يجب فعله حيال هذه الأزمة. في تلك الأسابيع من ذلك الشهر تمكن بنك سانتاندر الإسباني من شراء عديد من البنوك والمؤسسات المالية في عدد من الدول الأوروبية وأمريكا محققاً توسعا لم يكن يحلم به مستغلاً الفراغ الذي ولدته الأزمة, قبل أن تبدأ الحمائية للبنوك في هذه الدول. كتبت مقالا في ذلك الشهر بعنوان ''بنوك للبيع .. يا بلاش'' داعياً بنوكنا لتستغل الفرصة لتملٌكِها ملاءة مالية كبيرة بفضل السياسة النقدية للمملكة المشابهة للسياسة النقدية الإسبانية المحافظة التي حفظت بنوكها من أضرار الأزمة ومكنتها من التوسع. كان التوقيت أكثر من رائع ودقيق لهذا فإن بنك سانتاندر يجني ثمار توقيته وستكون له سيطرة كبيرة في هذه الدول في السنوات القليلة المقبلة.
المجادلة السائدة هذه الأيام تتعلق ''بالوقت'', خاصة هل بدأ الاقتصاد في التعافي؟ وهل النمو في بعض أجزائه حقيقي ودائم أم أنه مؤقت رغم الإعلان عن تسجيل نمو في دول مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا في هذا الشهر؟ علامات التعافي الاقتصادية عديدة ومؤشراتها كثيرة ومن أهمها مؤشر ثقة المستهلكين الذي يقيس العوامل النفسية للمستهلكين ومدى ثقتهم بالوضع الاقتصادي وانعكاس ذلك على قدراتهم الشرائية. بدأ هذا المؤشر يسجل ارتفاعاً في عديد من الدول إلا أنه لا يكفي وحده. هناك أيضاً مؤشر ثقة الشركات في الوضع الاقتصادي الذي سجل أول ارتفاع له في هذا الشهر في بريطانيا. على الرغم من أن هذا الارتفاع طفيف جداً إلا أنه يعد مهما لإحداث بعض التفاؤل في الاقتصاد البريطاني الذي يعاني أكثر من غيره في أوروبا. مؤشرات التعافي لا تعني بالضرورة أن يحقق الاقتصاد نموا, كذلك لا يعني النمو في شهر أو شهرين من أن الاقتصاد قد تعافى فلا بد أن يحقق الاقتصاد نموا متواصلا لثلاثة أرباع السنة لكي يمكن القول بشكل أكيد إن الاقتصاد قد تعافى. مع كل هذا يجب ألا يكون النمو جزئيا كما هو الوضع مع النمو الحالي في الدول التي أعلنت بياناتها عن تحقيق نمو, ففي غالبية هذه الاقتصادات كان النمو في قطاع التكنولوجيا والبنوك. هذا النمو قد يكون نتيجة جرعات الدعم التي قدمتها هذه الحكومات لاقتصادها فلا يزال القطاع الصناعي يعاني بشكل كبير, ولا تزال البنوك غير قادرة على تقديم القروض للشركات الصناعية بشكل كاف, فالبنوك لا تزال تبني احتياطاتها, وهذا قد يأخذ وقتاً طويلاً.
مما لا شك فيه أن تعافي الاقتصاد سيكون بطيئا ومؤلما, خاصة في بعض الدول التي لا تمتلك تنويعا في قطاعاتها الاقتصادية, ومما لا شك فيه أننا سنسمع كثيرا من الأخبار التي ترفع من التفاؤل لمستقبل الاقتصاد ولكن علينا أن نحكم ''التوقيت'' إن كنا مستثمرين أو شركات تحاول التوسع دولياً, فالتوقيت قد يكون مرتبطا بالمرحلة الاقتصادية المناسبة لقطاع معين وليس للاقتصاد بشكله العام.