Author

ربما.. من يدري؟!

|
في حكاية صينية قديمة يفقد فلاح حصانه الوحيد الذي يعينه على حرث وزراعة حقله، وبينما هو جالس يتأمل الحقل ويفكر فيما يمكن أن يفعل يحيط به عدد من جيرانه ومحبيه وهم يندبون حظه متسائلين: أية مصيبة حلت بك؟! عندها يرفع الرجل رأسه للسماء ويجول فيها بنظره قبل أن يلتفت إليهم قائلاً: «ربما .. من يدري؟!».. لينفضوا من حوله وكل منهم يضرب كفاً بالأخرى. في اليوم التالي يفاجأ الفلاح بعودة الحصان إلى الحقل وخلفه ستة خيول بريّة تفوقه قوة وجمالاً، فيعمد إليها ويدخلها في الحظيرة التي بالكاد تتسع لها.. قبل أن يعود إليه جيرانه ومحبوه فرحين ليهنئوه وهم يرددون: «أي خير أصابك؟». فيهز الفلاح رأسه مكتفياً بقوله: «ربما.. من يدري؟». في اليوم الثالث يتسلل الابن الوحيد للفلاح إلى حظيرة الخيول في غفلة من والده ويمتطي أحد الجياد البريّة بعد أن يسرجه عنوة، ويخرج به من الحظيرة.. لكن الجواد غير المروّض لا يستسلم لرغبة الابن في تدجينه ويلقي به بعيداً فيقع على الأرض وتُكسر قدمه. ومرة ثالثة يعود جيران الفلاح ومحبوه إليه ويواسونه وهم يصرخون : «أية مصيبة حلت بك؟!». ليكتفي كعادته بهز رأسه مردداً: «ربما.. من يدري؟!». في اليوم الرابع يأتي ضابط التجنيد من العاصمة لأخذ شباب القرية إلى الجيش بحسب النظام المتبع في الدولة، ويقضي نهاره وهو يجمع شبان القرية الأصحاء الصالحين للخدمة العسكرية وعندما يصل إلى منزل الفلاح ويشاهد حال ابنه الكسير يتركه ويمضي بسبب عجزه، وقبل أن يغادر القرية يلتف جيران الفلاح ومحبوه حول منزله حاملين له التهاني وهم يرددون: «أي خير أصابك؟» فيرد الفلاح قائلاً : «ربما.. من يدري؟!» هذه الحكاية من تراث «التاو» الذي يمثل إحدى أقدم الفلسفات الصينية التي تأسست بين القرنين الثالث والخامس قبل الميلاد، ويعني مصطلح «التاو» بشكل عام الصراط، فيما يفسره محيط الكلمات الصينية بـ «القانون الطبيعي» الذي يقوم على العدل والموازنة في كل شيء، وهذا يتضح من مغزى القصة التي أوردتها، فهي تختصر الفلسفة التاوية في بضعة أسطر بسيطة وممتعة، ولا بد أن أشير هنا إلى مسألة غريبة تتمثل في ضعف انفتاح التراث العربي على الحضارة الصينية القديمة رغم عظمتها وتفوقها في الوقت الذي بالغ كثيراً في الانفتاح على الفلسفة الإغريقية منذ وقت مبكر ابتداء من العصر العباسي ومروراً بمرحلة الازدهار الفلسفي في الأندلس على يد الفيلسوف الشهير ابن رشد وتلامذته، وليس انتهاء بانفتاح الثقافة العربية اليوم على المنتج الحضاري والفكري الغربي في زمن العولمة، وهو أمر يحتاج - في رأيي - إلى تفسير علمي يعتمد على قراءة تاريخية منهجية لتطور الفكر الفلسفي العربي.. هذه القراءة من شأنها أن تكشف عن أسباب وجود هذا الحاجز الثقافي التاريخي بين الحضارتين العربية والصينية، فهو حاجز يبدو أكبر بكثيرمن سور الصين العظيم.
إنشرها