مفهوم وتحديات تطبيقات التنمية المستدامة
تحدثت في مقال سابق نشر لي في «الاقتصادية» في العدد 5736، بمناسبة ذكرى مرور أربع سنوات على تولي خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز مقاليد الحكم في البلاد، عن جهود الحكومة السعودية في مجال إرساء قواعد التنمية المستدامة في السعودية، والتي تطلبت، كما ذكرت في المقال، إدخال عديد من الإصلاحات الاقتصادية والتنموية والإدارية، بما في ذلك التوسع في إنشاء الجامعات والمعاهد العلمية، وبناء المدن الاقتصادية العملاقة، لاستيعاب الشباب والشابات الجدد الداخلين إلى سوق العمل.
عدد من قراء المقال المذكور، طلب مني التحدث بشكل أوسع عن مفهوم التنمية المستدامة والتحديات المرتبطة بالتطبيق، وبالذات بالنسبة للوضع في السعودية، واستجابة مني لطلب القراء، سأحاول من خلال هذا المقال التحدث عن نشأة مفهوم ومصطلح التنمية المستدامة، والتحديات التي عادة ما تواجه التطبيق سواء في السعودية أو في خارجها.
الانطلاقة الرسمية لمفهوم ومصطلح التنمية المستدامة Sustainable Development، بدأت من خلال ما يعرف اليوم بتقرير «مستقبلنا المشترك»، الصادر عن اللجنة العالمية للتنمية والبيئة عام 1987، التي تشكلت بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة في كانون الأول (ديسمبر) عام 1983. ذلك التقرير جمع بين المحاور والركائز الأساسية للتنمية المستدامة المتمثلة في الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية في تعريف واحد، وهو «التنمية التي تأخذ في الحسبان حاجات المجتمع الراهنة دون المساس بحقوق الأجيال المقبلة في الوفاء باحتياجاتهم».
من هذا المنطلق تطلب تطبيق مفهوم التنمية المستدامة في العالم، تحسين الظروف المعيشية لجميع سكان العالم، بالشكل الذي يحافظ على الموارد الطبيعية، وتجنيبها أن تكون عرضة للهدر والاستنزاف غير المبرر. ولتحقيق هذه المعادلة الصعبة، تطلب الأمر التركيز على ثلاث مجالات رئيسة ترتبط بتحقيق مفهوم التنمية المستدامة، وهي: (1) تحقيق النمو الاقتصادي والعدالة، من خلال خلق ترابط بين الأنظمة والقوانين الاقتصادية العالمية، بما يكفل النمو الاقتصادي المسؤول والطويل الأجل لجميع دول ومجتمعات العالم دون استثناء أو تمييز. (2) المحافظة على الموارد البيئية والطبيعية للأجيال المقبلة، والذي يتطلب البحث المستمر عن إيجاد الحلول الكفيلة للحد من الاستهلاك غير المبرر وغير المرشد للموارد الاقتصادية، هذا إضافة إلى الحد من العوامل الملوثة للبيئة. (3) تحقيق التنمية الاجتماعية في جميع أنحاء العالم، من خلال إيجاد فرص العمل وتوفير الغذاء والتعليم والرعاية الصحية للجميع، بما في ذلك توفير الماء والطاقة. توالت الجهود العالمية ما بين عام 1972 وعام 2002 للتأكيد على ضرورة إرساء قواعد التنمية المستدامة على مستوى العالم، من خلال عقد ثلاثة مؤتمرات أرض دولية مهمة، الأول عقد في استوكهولم عام 1972 تحت اسم مؤتمر الأمم المتحدة حول بيئة الإنسان، والثاني عقد بمدينة ريودي جانيرو في البرازيل عام 1992 تحت اسم مؤتمر الأمم المتحدة حول البيئة والتنمية، والثالث عقد في جوهانسبرج في جنوب إفريقيا عام 2002 تحت اسم مؤتمر الأمم المتحدة حول التنمية المستدامة. جميع تلك المؤتمرات نبهت إلى محدودية وندرة الموارد الطبيعية والاقتصادية على مستوى العالم، وأن الاستمرار في استخدامها غير المرشد قد يعرضها للاستنزاف، وبالتالي إلى عدم القدرة على الوفاء باحتياجات الأجيال المقبلة، ومن هذا المنطلق أكدت تلك المؤتمرات ضرورة خلق علاقة أخلاقية تربط بين الإنسان والبيئة، يتحقق عنها صون للبيئة، إضافة إلى ذلك قد نبهت إلى ضرورة التعامل مع الموارد الطبيعية والاقتصادية بكفاءة عالية، وتحقيق العدالة الاجتماعية بين الناس، من خلال ضمان الفرص المتكافئة في مجالات التعليم والصحة والتنمية، بما في ذلك اجتثاث الفقر.
رغم الجهود العالمية والمحاولات الجادة لتحقيق مطلب التنمية المستدامة في جميع دول ومجتمعات العالم، إلا أنه لا تزال تلك المحاولات قاصرة إلى حد كبير، وذلك لعدد من الأسباب، التي لعل من بين أهمها وأبرزها: (1) الزيادة المطردة في عدد سكان العالم، إذ تشير الإحصائيات إلى أن ما يزيد على ستة مليارات شخص يسكنون هذه الأرض، أو ما يمثل نحو نسبة 140 في المائة خلال الـ 50 عاما الماضية، كما يتوقع أن يبلغ عدد سكان العالم بحلول عام 2050 تسعة مليارات نسمة، مما سيضاعف من تعقيدات التنمية المستدامة. (2) انتشار الفقر المدقع في العالم، إذ تشير الإحصائيات إلى أن خمس سكان العالم مضطرون للعيش على أقل من دولار واحد في اليوم، هذا إضافة إلى أن نحو 1.1 مليار شخص لا تتوافر لديهم مياه الشرب المأمونة، وأن مياه الشرب الملوثة وعدم كفاية الإمدادات من الماء يتسببان في نحو 10 في المائة من جميع الأمراض في البلدان النامية.
التعامل مع تحديات ومعوقات تحقيق متطلبات التنمية المستدامة، يتطلب وفق التقارير الدولية المعنية بشؤون التنمية المستدامة، وكذلك آراء المختصين، التخفيف من حدة الفقر في بلدان العالم، وبالأخص في المجتمعات الريفية، التي يعيش فيها معظم الفقراء، هذا إضافة إلى ضرورة تحسين قدرة جميع البلدان، وبالذات البلدان النامية المرتبطة بالتصدي لتحديات العولمة والاعتماد على بناء القدرات الذاتية، بما في ذلك التشجيع على أنماط استهلاك وإنتاج مسؤولة للحد الفاقد ومن الإفراط في استخدام الموارد الطبيعية والاقتصادية، وكذلك القضاء على المشكلات الصحية، وبالذات الأمراض والأوبئة المستعصية، مثال مرض الكوليرا الذي عادة ما ينتشر في البلدان الفقيرة بسبب سوء الرعاية الصحية المتوافرة لديهم، إضافة إلى انتشار المياه الملوثة والمستنقعات.
بالنسبة للوضع في السعودية وعلى الرغم من الإنجازات الكبيرة، التي تحققت في مجال التنمية المستدامة، والتي أوردت عدداً منها في مقالي سالف الذكر، إلا أنه لا تزال المملكة تواجه العديد من التحديات في التعامل مع مجالات التنمية المستدامة، مثلها مثل بقية دول العالم، ولا سيما أن اقتصادنا لا يزال اقتصادا ريعيا وناميا، يعتمد إلى حد كبير على مورد رئيس واحد (النفط) في توليد الإيرادات اللازمة لدعم وتمويل مجالات وأنشطة التنمية المستدامة، وأن مجتمعنا ينمو بمعدلات نمو مرتفعة قياساً بشعوب دول العالم الأخرى، هذا إضافة إلى أن فئة الشباب في مجتمعنا تشكل نسبة عالية نحو 60 في المائة، مما سيضاعف من الجهود المرتبطة بالتعامل مع متطلبات وتحديات التنمية المستدامة، بالذات المتعلقة بتوفير فرص التعليم المتكافئ للجميع، والحصول على الرعاية الصحية والتطبيب المتقدم، وخلق الوظائف والقضاء على البطالة والفقر، والله من وراء القصد.