Author

دعوى الصورية.. وهل تسقط بالتقادم؟

|
كنت في المقال السابق حول (حماية العقود) قد وعدت بالعودة إلى الحديث عن دعاوى الصورية في العقود والتصرفات القانونية، ولأهمية هذا الموضوع وشدة الحاجة إليه فإن من المناسب الوفاء بهذا الوعد وذلك ببيان أبرز المسائل المتعلقة بموضوع الصورية بشكل موجز، حيث لا يتسع المقام لبسط القول فيها، الذي يرجع إليه في كتب الفقه وشراح القانون وفي أحكام القضاء. بداية القول لا بد من تعريف الصورية المقصودة هنا والتي تعني: اتفاق طرفين أو أكثر على إجراء تصرف قانوني ٍظاهر غير حقيقي يخفي عقداً آخر مقصوداً لهم. كأن يقوم المدين مثلاً بإفراغ بعض العقارات المملوكة له لطرف آخر على هيئة بيع مع عدم وجود بيع في الحقيقة، إنما لغرض التهرب من ملاحقة ِ دائنيه له. وهذا من أمثلة الصورية غير المشروعة. وبعد التعريف أورد شيئاً من أبرز مسائل الصورية راجياً أن يكون فيها ما يفيد القارئ الكريم. أولاً: الصورية في حال ثبوتها تستلزم وجود عقدين أحدهما ظاهر والآخر باطن غير معلن بين الأطراف ذاتها، ويتضمن العقد الباطن إلغاء أو تعديلاً لموضوع العقد الظاهر الصوري وآثاره ويصح أن يكون العقدان متزامنان في الوقت ذاته أو أن يتأخر العقد الباطن الحقيقي عن العقد الصوري. ثانياً: الصورية في العقود نوعان: 1. صورية مطلقة: وهي التي تتناول كامل العقد ووجوده مثل عقد بيع ٍ يستره المتعاقدان بعقد هبة لغرض تفويت حق الشفعة على طرف ثالث. 2. صورية نسبية: وهي التي تقتصر على أحد جوانب العقد أو بياناته مثل عقد بيع صحيح يتفق أطرافه على تحديد ثمن للمبيع يختلف عن الثمن الحقيقي المدفوع قلة أو كثرة لغرض معين، فهذا العقد في أصله صحيح وحقيقي. ثالثاً: قد تكون الصورية في العقد لأغراض مشروعة، وقد تكون لأغراض ممنوعة، وسبق أن طلب أحد القراء الكرام مثالاً على الصورية المشروعة التي قد تدعو إليها الحاجة، وأقرب مثال على ذلك ما نص عليه نظام الشركات في شركة المحاصة التي لا يظهر فيها أمام الغير سوى أحد الشركاء، في حين يستتر باقي الشركاء في عقد من الباطن بينهم واعتبر النظام هذه الشركة صحيحة. أما الصورية التي يقصد منها أمر غير مشروع، فإنه بمجرد ثبوتها تكون مستحقة للإبطال ويعامل من أبرمها بنقيض قصده كمن باع أملاكه بيعاً صورياً للتهرب من ملاحقة ِ دائنيه. كما أن الصورية في العقود قد تكون لأغراض ستر أعمال البر والإحسان، فتدخل في باب الصدقة التي يخفيها المتصدق، فيكون له على ذلك أجر صدقة السر. رابعاً: تختلف الصورية عن التدليس أو التزوير، فالعقد الصوري عقد مبرم بين أطرافه وهم يعلمون بصوريته ولا ينطوي على تدليس من أحدهم على الآخر، كما أنه ليس من قبيل التزوير، لأن التزوير يقوم على أساس اختلاق مستند غير موجود أصلاً، ومن الملاحظ أن بعض المحامين في ترافعهم يخلطون بين هاتين المسألتين ويدفعون بعض العقود أو المستندات تارة بالتزوير وتارة بالصورية وهذا تناقض ينم عن عدم فهمهم لطبيعة كل من الأمرين، فالادعاء بصورية عقد يعني أن العقد موجود فعلياً وأنه تم بتواطؤ أطرافه وعلمهم وأنهم جميعاً أسهموا في إيجاده؛ أما الطعن على مستند بالتزوير فهو أمر مختلف تماماً يعني أن هذا المستند مصنوع ومزيف وهذا الدفع يخضع لإجراءات مختلفة تماماً أثناء المرافعة. خامساً: في دعوى الصورية ينبغي للقضاء التفريق في إثباتها بين ما إذا كانت دعوى الصورية مقامة من أحد أطراف العقد ضد الطرف الآخر أو مقامة من غير أطراف العقد، ووجه التفريق هنا هو ما أشرت إليه في مقالي السابق بأنه ينبغي ألا يقبل ممن يدعي صورية عقد مكتوب هو طرف فيه إلا دليلاً كتابياً وهو ما يسمى بـ (ورقة الضد) التي يجري في العرف أن يكتبها أطراف العقود الصورية بينهم لإثبات العلاقة العقدية الحقيقية بينهم وما تتضمنه من التزامات بينهم وأن من المستبعد عقلاً وعرفاً أن يقوم أحد العقلاء بالتوقيع على عقد صوري يتضمن التزاماً بحق عليه أو تنازلاً عن حق له دون أن يحتفظ لديه بالعقد الحقيقي الذي يبرئه من هذا الالتزام/ وكلما زاد مقدار الحق المدعى به كان الادعاء بصورية العقد الظاهر أثقل وأصعب في الإثبات. وقد أشرت سابقاً إلى أنه في الفقه الإسلامي يجوز إثبات الصورية بأي وسيلة إثبات مقبولة دون قصر ذلك على الدليل الكتابي، إلا أنه مما يتوافق مع المصلحة أن يتم إلزام الناس بإبرام عقود مكتوبة لإثبات صورية أي عقد يبرمونه بينهم دون إرادة حقيقته، وأنه لا يقبل منهم الاحتجاج بغير الدليل الكتابي وذلك من باب السياسة الشرعية عملاً بالمصالح المرسلة كإلزام الناس بتوثيق عقود النكاح أو عقود مبايعات العقارات عبر طرق التوثيق النظامية لتفادي حدوث النزاعات وضياع الحقوق. وهذا الحديث يقودني إلى المطالبة بإيجاد نظام ملزم ٍ للإثبات أسوة بالدول الأخرى يتولى إعداده وصياغته مختصون من فقهاء الشريعة والقضاء والقانون. وهذه مسألة ينبغي العناية بها لما يترتب عليها من ضياع الحقوق وإلحاق الضرر الفادح بالغير، وهي ما استفضت بالحديث عنها في مقالي السابق حول (حماية العقود) ذلك أنه يوجد كثير من الدعاوى القضائية القائمة التي تدور رحاها منذ سنين بما يترتب عليها من إشغال للقضاء وتعطيل المصالح وإشغال الذمم البريئة سببها فتح الباب على مصراعيه لكل من شاء أن يدعي بصورية عقد كان هو طرفاً فيه وسعى في إتمامه على يديه وأقر به وبما تضمنه حين التوقيع عليه، وقد يكون هذا العقد موثقاً لدى جهات الاختصاص، بل قد يكون أطراف العقد باشروا تنفيذه ونقله إلى الواقع فلم يعد اتفاقاً على ورق، ومع ذلك يأتي يدعي بصورية هذا العقد دون مستمسك صالح للإثبات ويبقى القضاء يخوض في هذا الادعاء سنوات عجاف كسني يوسف ـ عليه السلام. وصورة أخرى من دعاوى الصورية موجودة أيضا لدى القضاء، وهي أن يأتي بعض الناس يدعي شراكة له مع غيره في حق معين مع أن هذا الحق ثابت ومكتوب أنه باسم المدعى عليه ولا وجود للمدعي بالشراكة فيه كمن يدعي كونه شريكاً في شركة قائمة ومثبت عقد تأسيسها دون وجود اسم له في هذا العقد أو في سجلات الشركة، وأكثر ما توجد هذه الصورة أن تكون الدعوى موجهة ضد نصيب أحد الشركاء المسجلين في عقد الشركة وليس في حصص باقي الشركاء. وتبقى مثل هذه الدعاوى ميداناً فسيحاً لإضاعة وقت وجهد القضاة ووسيلةً فاعلة في يد المدعين بالباطل لابتزاز المدعى عليه حسن النية ومساومته على إخلاء ساحته من هذه المطالبة الباطلة مقابل افتدائه نفسه بمال يدفعه دون حق، بينما لو قام القضاء بدور فاعل في عدم مجاراة أصحاب الدعاوى المبطلة وتمكينهم من استخدام سلاح القضاء في الإضرار بالآخرين لما وجدت أو لقلت مثل هذه الدعاوى. وقيام القضاء بدوره في سد بابها يكون بإعمال المنهج الشرعي العادل الذي يرسمه قوله ـ صلى الله عليه وسلم: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال ٌ أموال قوم ودماءهم، لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر). وقد يكون من أسباب بقاء هذه الدعاوى مفتوحة الباب دون حسم أو حكم ما ابتلي به أصحاب الفضيلة القضاة من تزايد أعداد القضايا وتزاحمها مع قلة عدد القضاة وقلة معاونيهم وتراكم الأعمال على القاضي بحيث لا يتسع وقته للبحث الكافي والنظر والاجتهاد وإعطاء كل القضايا حقها من ذلك وهو أمر مشاهد ومحسوس. فليس من العدل توجيه اللوم إلى القضاة حدهم في هذه المسألة، إلا أن لنا فيهم أملا أن يتنبهوا للآثار السيئة المترتبة على إطالة أمد مثل هذه الدعاوى التي لا تقوم على ساق سليمة ولا يملك المدعي فيها سوى قصور مبنية على الرمال. سادساً: في حال وجود نزاع على عقد من العقود بين أطرافه فإن من يدعي أو يدفع بصورية هذا العقد مقابل من يحتج عليه به، فإن هذا الدفع يجب أن يقدمه في بداية الدعوى عند مواجهته بالعقد ومطالبته بتنفيذ التزامه به، أما أن يتأخر الدفع بالصورية إلى حين صدور الحكم الابتدائي في الدعوى، فيأتي الطرف المعترض ليدعي صورية هذا العقد أمام محكمة الاستئناف أو المحكمة العليا وهو لم يسبق له إثارة هذا الدفع أمام محكمة الدرجة الأولى فإن ذلك مما ينبغي للقضاء سد بابه وعدم قبوله لكون ذلك قرينة قوية على بطلانه. ومع ذلك فهذه مسألة تخضع لتقدير المحكمة واجتهادها الذي قد يظهر له من وسائل الإثبات ما يدل على صحة الدفع بالصورية. سابعاً: نأتي هنا للحديث عن عنوان المقال وهو: هل تسقط دعوى الصورية بالتقادم؟ في الحقيقة فإن هذا التساؤل ليس إلا صورياً للفت الانتباه ذلك أن الجواب عليه معلوم عند كل أهل الاختصاص في القضاء والفقه في المملكة، لأن الحكم الشرعي أن الحقوق لا تسقط بالتقادم، فلا تخرج هذه المسألة عن هذا الحكم. مع أن بعض القوانين الوضعية قد أخذت بمبدأ سقوط دعوى الصورية بالتقادم وأنه لا يقبل الادعاء بصورية عقد أو تصرف قانوني بعد مضي مدة طويلة يختلف تحديدها من قانون إلى آخر. وسبب إيراد هذه المسألة ليس المطالبة بالعمل بمبدأ التقادم في دعاوى الصورية، إنما التنبيه على أنه ينبغي للقضاء عدم مجافاة هذا الجانب وإغفاله كلياً. وعند الحديث عن هذه المسألة نجد أنه يتعارض عندنا مبدآن مهمان وقاعدتان كبيرتان هما: مبدأ ضرورة استقرار المعاملات والعقود الذي يتشوف إليه الشارع الحكيم وهو من وسائل تحقيق المقاصد الشرعية ومن مقاصد واضعي القوانين الوضعية أيضا لما له من أثر في الأمن الاجتماعي والاقتصادي، وهذا المبدأ يدعو إلى عدم الالتفات لدعوى صورية العقود بعد مضي مدة طويلة على إبرامها وتنفيذها. ومبدأ أن العقد الصوري في حقيقته عقد معدوم في الواقع وغير حقيقي ومضي المدة الطويلة لا يجعل المعدوم موجوداً. وهنا ينبغي التعامل مع دعوى الصورية ونظرها دون إغفال هذين المبدأين والتوازن بينهما بما يحقق المصلحة. وأشير هنا في مسألة التقادم إلى أن بعض القوانين الوضعية فرَّقت في ذلك بين أن تكون الصورية قدمت على هيئة دعوى أو على هيئة دفع لدعوى، فإن كانت دعوى فيأخذون بمبدأ التقادم، وإن كانت دفعاً لدعوى فلا يعمل فيها بهذا المبدأ تأسيساً على أن ميعاد التقادم لا يبدأ سريانه إلا من الوقت الذي يتمكن فيه صاحب الحق من مباشرته، وحق الدفع لا يتمكن صاحبه من مباشرته إلا بعد إقامة الدعوى عليه، فلا يكون ملزماً بالدفع بصورية عقد إلا حين تقام عليه الدعوى للمطالبة بإلزامه بهذا العقد. ثامناً: كانت كل المسائل السابقة تخص الدعوى بالصورية أو دعوى الصورية، وإن مما يناسب الإشارة إليه هنا لارتباطه بالمسألة السابقة ما يسمى (الدعوى الصورية) وهي تختلف عن السابقة، حيث إن دعوى الصورية هي التي يكون الغرض منها إثبات صورية عقد أو تصرف قانوني، أما الدعوى الصورية: فهي الدعوى التي يقصد منها المدعي أمراً خفياً ليس هو ما طلبه في الدعوى، وقد تكون الدعوى الصورية بتواطؤ المدعي والمدعى عليه فيما بينهما لإظهار أمر خلاف ما هو عليه في الواقع أو للإضرار بطرف ثالث أجنبي عن الدعوى أو للوصول إلى أي غرض لا يتمكنان من الوصول إليه إلا بهذه الدعوى، كما قد تكون هذه النية مقصودة للمدعي وحده دون علم المدعى عليه. والدعاوى الصورية موجودة فعلياً وأذكر أنه مرَّ بي حين عملي في القضاء دعوى غريبة جداً أوقعتني في حيرة لغرابة وقائعها ولم أستطع تصورها على حقيقتها وفهمها على وجهها حتى خطر في بالي أنها قد تكون دعوى صورية ليست على ظاهرها عندي، وبعد أن أجريت فيها الوجه الشرعي واجتهدت فيها على ظاهرها وصدر الحكم فيها قنع به طرفا الدعوى جميعاً لتكتمل بذلك فصول الصورية، ما حداني إلى التقصي عنها والسؤال عن أطرافها خارج مجلس القضاء حتى علمت بالهدف الحقيقي منها، وأنه كان المقصود بها طرف ثالث أجنبي عن الدعوى. والدعوى الصورية متى ثبت للقاضي صوريتها، فإنه قد يعاملها بمقتضى التعليمات الصادرة في الدعاوى الكيدية. هذا ما تيسر لي في موضوع الصورية في العقود والتصرفات، وهي خواطر وملاحظات وتنبيهات وتذكير، أرجو أن أكون قدمت فيها ما يفيد، وقبل الختام أقول: إن دعاوى الصورية تزيد أيام الكساد والخسارة، حيث يلجأ إليها بعض المفلسين من التجار إما محاولة للإثراء على حساب الغير وإما تنصلاً من التزامات في ذمتهم عجزوا عن الوفاء بها، وهؤلاء قد أفلسوا من الدين والأخلاق قبل إفلاسهم من المال، حيث لم يتورعوا عن النكث بعقودهم والإضرار بغيرهم وأكل أموال الناس بالباطل. وفي مقالي السابق طالبت بأن يعاملهم القضاء بما يستحقون من التعزير الرادع والحكم بتضمينهم كل ما وقع على المتضرر من دعاواهم. ختاماً أسأل الله لنا جميعا التوفيق والسداد في القول والعمل.
إنشرها