أزمة التراجع المستمر في الائتمان المصرفي.. مسؤولية من؟

من المسؤول عن شح وتراجع مؤشرات الائتمان المصرفي؟ هل البنوك (عرض الائتمان) أم المستثمرون أنفسهم (الطلب على الائتمان)، أم مدير الائتمان في الاقتصاد الوطني (مؤسسة النقد)؟ أم أن هناك مسؤول آخر يستحق أن يحظى بقدرٍ من الاهتمام؟
في حقيقة الأمر، من الخطأ أن يتم تداول أمر كأمر الائتمان، الذي يعادل في أهميته أهمية الدم في جسم الإنسان، بمثل هذا التبسيط والتسطيح، الذي يضر أكثر مما يفيد، خاصة عندما يتعلق الأمر بالاستقرار الاقتصادي. فقد رأينا وتابعنا ردة الفعل السريعة لشيوع خبر تراجع الائتمان المصرفي للشهر الثالث على التوالي، ماذا حدث في سوق الأسهم؟ لقد تراجع في اليوم نفسه إلى مستوى 3 في المائة. ولهذا من واجب كل معني ومتخصص أن يدلي بدلوه بما يضمن إيضاح الصورة للمواطن، وفي الوقت نفسه تقديم المقترحات المفيدة أو على الأقل التي قد يترتب عليها ميلاد أفكار وآليات للتطوير.
نعم تراجع الائتمان، وفي تراجع مستمر، ونحن لسنا استثناءً عن باقي دول العالم في هذا الخصوص، فالعالم يعيش أزمة طاحنة، أزمة لا تتكرر إلا كل 100 عام، ومن ثم، فلكل فعل رد فعل، فطبيعي أن تشهد الأسواق حالة من عدم اليقين، وفقدان نسبي للثقة، إلى أن تتضح معالم الطريق، ويظهر النور في نهاية النفق، عند هذه المرحلة ستعود العجلة للدوران من جديد. صدرنا المقال بمن المسؤول؟ وحددنا ثلاث جهات على وجه الخصوص، معروضة أدناه لحدود مسؤولية كل طرف عن هذا الوضع:
أولاً: مؤسسة النقد العربي السعودي، هل هي المسؤولة؟ هل يمكن أن ننسب إليها أي تقصير فيما يختص بإدارة الجهاز المصرفي خلال فترة الأزمة؟ في الحقيقة، لا يمكن لأي اقتصادي منصف أن ينكر الدور الإيجابي لمؤسسة النقد في إدارة القطاع المالي الوطني، خاصة منذ وقوع الأزمة العالمية. فمن المتعارف عليه اقتصادياً، أن للبنك المركزي مهام وصلاحيات يمكنه اللجوء إليها، خاصة خلال الأزمات، سواء لضمان ضخ السيولة في حال حاجة السوق إليها، أو لضمان الحد من معدلات التضخم في حال تشبع السوق بها. وقد تبنت مؤسسة النقد مختلف السياسات، التي بدأت بالتخلص التدريجي من الدين العام (وهو ما يعني إتاحة المزيد من السيولة لدى البنوك) حتى قبل وقوع الأزمة العالمية بخمس سنوات، أما بعد الأزمة، أجرت المؤسسة خفضاً متواصلاً في أسعار الفائدة، كما خفضت الاحتياطي الإلزامي (الاحتياطي الذي تلتزم البنوك بإيداعه لدى مؤسسة النقد) إلى النصف تقريباً، كما أعلنت عن توفير مليارات الريالات كسيولة يمكن إمداد البنوك بها عند الحاجة، إضافة إلى إعلانها عن ضمان الودائع (ودائع الأفراد لدى البنوك) بشكل كامل، وهو ما أضفى قدراً من السكينة لدى الأفراد ولم يندفعوا لاستعادة مدخراتهم، وبالتالي لم تتعرض البنوك للانكشاف. لقد تبنت مؤسسة النقد مختلف الوسائل لضمان السيولة، وحث البنوك على مواصلة منح الائتمان. إذاً لا يمكن لمحللٍ منصف أن يلقي باللائمة على مؤسسة النقد، وإن كان هناك اقتراح لعمل ما، يمكن لمؤسسة النقد القيام به، فهو معروض في خاتمة المقال.
ثانياً: البنوك العاملة في السوق السعودية، هل هي المسؤولة عن شح الائتمان؟ ومن يقبل أن يحتفظ بالمليارات، ولا يسعى لاستثمارها لتحقيق عائد من ورائها؟ في الحقيقة، وللإنصاف فإن الإجابة هي بلا.. ونعم في الوقت نفسه. فيما يختص بلا.. أي أنه من الظلم إلقاء كامل المسؤولية على البنوك، لأن أي اقتصادي رشيد، عليه التريث، خاصة عند سيادة حالة من عدم اليقين كتلك التي يعيشها الاقتصاد العالمي. فمدير البنك أمين على ودائع الأفراد، وقد رأى بأم عينيه (أزمة البنوك الأمريكية) كيف أن الإفراط في الائتمان غير المحسوب العواقب يقود إلى كوارث كبرى. فما الذي يضمن له قدرة العميل على رد أصل القرض والفوائد في ظل هذه الظروف التي قد تزداد ضبابية؟ خاصة إذا كان المستثمر يركز نشاطه على خدمة الأسواق الخارجية، التي تشهد تراجعا حادا في الطلب. هنا إلى هذا الحد علينا ألا نظلم البنك لأنه يتصرف تصرف الشخص الاقتصادي الرشيد، أن ينتظر ويترقب إلى أن يرى النور في نهاية النفق.
أما فيما يختص بنعم، ففي الحقيقة، من الإنصاف القول بأن رجال البنوك أفرطوا في تخوفهم وترددهم، وخاصة أن جميع مؤشرات الاقتصاد الوطني، حتى بعد وقوع الأزمة لا تزال إيجابية، بل أعلنت الدولة عن موازنة ضخمة، خاصة في شقها الاستثماري، أضف إلى ذلك كل ما قامت به مؤسسة النقد لطمأنة البنوك وحثها على مواصلة التمويل، وتحديداً للاستثمارات التي تستهدف السوق المحلية. إذاً، تُسأل البنوك جزئياً عن هذا الوضع، وخاصة أننا نعلم أن البنوك الوطنية في وضع أفضل من نظيراتها في باقي دول العالم، إذ إن حصة كبرى من الإيداعات لديها هي دون عائد، ولهذا فإن تكلفة رأس المال بالنسبة لها هي الأدنى عالمياً، ولهذا كان توجه بعض البنوك لرفع أسعار الفائدة إلى 12 و13 في المائة... إلخ، كان مبالغاً فيه ويستحق المراجعة، لمصلحة الاقتصاد الوطني الذي يحتضنها ولمصلحة البنوك أيضاً، خاصة في ظل رسائل الطمأنة (التي يؤكدها الواقع) من قبل مؤسسة النقد وغيرها.
ثالثاً: المستثمر.. هل هو المسؤول؟ لماذا لم توجه أصابع الاتهام إلى المستثمر؟ فالمستثمر الحصيف يدرك جيداً أن العالم يعايش حالة من عدم اليقين، ترتب عليها تدني مستويات الثقة، ومن ثم تراجعت معدلات الطلب بجميع صورها، كما تراجعت مؤشرات التجارة العالمية تراجعاً حاداً، ترتب على ذلك هبوطا حادا في أسعار السلع ومدخلات الإنتاج. هذه التحولات تنطوي على آثار مزدوجة بالنسبة للمستثمر، ولكنها تصب جميعها في اتجاه تراجع شهيته نحو التوسع، ومن ثم الطلب على الائتمان، إلى أن تتضح معالم الاقتصاد العالمي الذي سيولد من رحم الأزمة.
في ظل تراجع الطلب وتراجع الأسعار (خاصة المستثمر صاحب التوجه التصديري) على المستثمر خفض الإنتاج، ومن ثم قد يؤجل خططه للتوسعية التي كان بصدد الدخول فيها قبل وقوع الأزمة، ولهذا سيتوقف عن طلب الائتمان. أضف إلى ذلك عاملا مهما ندركه جيداً هو الانتظار أملاً في مزيد من الانخفاضات في أسعار مدخلات الإنتاج، ولهذا سمعنا عن توجه عديد من الشركات العامة والخاصة إلى مراجعة تكلفة مشاريعها، تفاعلاً مع أوضاع ما بعد وقوع الأزمة. إذاً هناك أمور كثيرة إلى جانب الطلب على الائتمان تستحق التوقف عندها، حتى لا نلقي باللائمة على طرف ونتجاهل طرفا، فالبنوك، خاصة بالنسبة للقروض طويلة الأجل، لا يمكنها أن تطارد المستثمر لمنحه الائتمان، لأن الأمر يستحق دائماً إجراء دراسات جدوى متعمقة وجادة. ولهذا فالتراجع المستمر في الائتمان المصرفي يسأل عنه جزئياً عنصر الطلب على الائتمان، إلا أن توجه المستثمر هو توجه مبرَر اقتصادياً. ولكن ماذا عن الطلب على الائتمان للاستثمار لخدمة السوق الوطني الذي يشهد مؤشرات بالغة الإيجابية وتستحق تفاعل المستثمرين معها؟ فتكفينا الإشارة إلى مخصصات الموازنة العامة للإنفاق الاستثماري، والتي بلغت 225 مليار ريال، هل من مجيب؟ فالمستثمر الذي يستهدف السوق الوطني جدير بالتوسع، ومن ثم جدير بالذهاب إلى البنوك لطلب المزيد من الائتمان.
بعد أن فصلنا مسؤولية مختلف أطراف منظومة الائتمان في السوق الوطني، يتضح لنا أننا لسنا بصدد مؤامرة أو توجه مقصود لذاته، فكل يؤدي دوره، وخاصة مؤسسة النقد، ولكن على جانبي عرض الائتمان والطلب عليه، فإن الأمر يستحق المزيد من التفكير، خاصة بالنسبة للاستثمارات التي تستهدف السوق الوطني. وبناءً عليه، حتى يمكن إنجاز هدف تنشيط سوق الائتمان، يُقترح قيام مؤسسة النقد بضمان نسبة معينة من القروض الاستثمارية (طويلة الأجل) التي توافق البنوك على منحها للمستثمرين. لجأت الكثير من الدول إلى تبني هذه الآلية، ومنها الكويت، التي أعلن بنكها المركزي عن ضمان 50 في المائة من قيمة القرض الاستثماري في حال ثبوت جدواها. يتطلب نجاح الآلية التنسيق فيما بين البنوك ومؤسسة النقد، لتشكيل فريق عمل داخل مؤسسة النقد، يتولى مراجعة دراسات الجدوى التي وافقت عليها البنوك موافقة مبدئية، وفي حال ثبوت جدوى المشروع لمؤسسة النقد، تتولى كفالته أمام البنك المعني في حدود النسبة التي تقدرها. بهذه الطريقة سيكون هناك حافز أكبر لدى البنوك، بعد أن ضمنت مؤسسة النقد جانباً من أصل القرض، وفي الوقت نفسه سيتشجع المستثمر لأنه يدرك أن مؤسسة النقد لن توافق على ذلك إلا بعد تأكدها من جدوى المشروع، وبالتالي تتحقق المصلحة للجميع: الاقتصاد الوطني والبنوك والمستثمرين. والله أعلى وأعلم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي