حكاية فرنسا مع الحجاب

حكاية فرنسا مع الحجاب الإسلامي حكاية طويلة. وقد أوضح جذورها التاريخية بقدر من التفصيل الكاتب الصحافي الراحل الأستاذ أحمد بهاء الدين، رحمه الله، في كتابه ''أفكار معاصرة'', وأوجزها هنا على النحو التالي:
1 - كان الفرنسيون يرمزون إلى المرأة الجزائرية باسم (فاطمة)، فإذا قال أحد من الكتاب أو الأدباء الفرنسيين (الفاطمات Les Fatmas) فهو يعني (الجزائريات)، وكانت المرأة الجزائرية لا تخرج إلى الشارع إلا ساترة نفسها بحجاب هو مثلث من القماش الأبيض المطرز في نهايته، يغطي الوجه، و(الحايك) وهو ملاءة بيضاء واسعة تلتف بها المرأة المحجبة.
2 - بدأت معركة الاستعمار الفرنسي ضد الحجاب في الجزائر منذ سنة 1930، فقد وجد الفرنسيون أن القضاء على الحجاب خطوة لازمة وضرورية للقضاء على الشخصية العربية الإسلامية الجزائرية وإذابتها في الشخصية الفرنسية الأوروبية. وبناء على دراسة أعدها خبراء فرنسا في العلوم النفسية والاجتماعية والسياسية، قررت الإدارة الاستعمارية في الجزائر محاربة الحجاب بشتى الأساليب والوسائل. فالخبراء الفرنسيون أوصوا في دراستهم أنه من أجل إضعاف مقاومة الشعب الجزائري لا بد من غزو النساء أولا، فالمجتمع العربي وإن كانت تسوده في الظاهر سلطة الأب، فإن الذي يؤثر فيه ويوجهه – في الخفاء وخلف الحجب والأستار – سلطة المرأة سواء كانت سلطة الأم أو الجدة أو الخالة. ولذلك فإن الدعوة إلى (تحرير) المرأة الجزائرية المظلومة المضطهدة السجينة خلف حجابها ستظهر الإدارة الاستعمارية في صورة تقدمية وتضع الرجل الجزائري في قفص الاتهام.
كما أن المستعمر الفرنسي أعتقد أنه كلما قل (الاختلاف) بين المجتمع الجزائري والمجتمع الأوروبي، قلت مقاومة المجتمع الأول لسطوة المجتمع الثاني وقلت قدرته على المقاومة والممانعة والرغبة في الاحتفاظ بشخصيته الوطنية الأصيلة.
3 – ويضيف الكاتب أحمد بهاء الدين أن الهجوم الفرنسي على الحجاب بلغ درجة وصلت أحيانا إلى أن بعض المصانع والمؤسسات ذات الإدارة الفرنسية كانت تعمد إلى إقامة حفلات تدعو إليها العامل الجزائري البسيط للحضور مع زوجته وبناته، ويشترط عليه أن يحضرن سافرات، فإن رفض فقد عمله. وكان هذا الإصرار الفرنسي على نزع الحجاب كافيا لأن يقنع الرجل الجزائري والمرأة الجزائرية أن نزع الحجاب عمل مشبوه. وحتى النساء الجزائريات اللاتي لم يكن يحبذن الحجاب فقد رفضن نزعه بوصفه رمزا وطنيا للمقاومة لا يجوز التخلي عنه. وأدى تركيز الاستعمار الفرنسي ضد الحجاب إلى تقديس الجزائريين للحجاب والاحتفاظ به كدليل على المقاومة ضد المستعمر الفرنسي.
وبعدما انفجرت ثورة التحرير الجزائرية يوم أول تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1954، شاركت المرأة الجزائرية في هذه الثورة وانتهت ثورة التحرير بانتصار الجزائر وخروج المستعمر من أرضها مذموما مدحورا.
تلك هي الجذور التاريخية للعداء الفرنسي الشديد للحجاب ثم مضت السنون ودارت الأيام وإذا بالحجاب يغزو فرنسا بل أوروبا مع تزايد أعداد المواطنين المسلمين في القارة الأوروبية، فأصيبت فرنسا ودول أوروبية أخرى مثل بلجيكا وهولندا بالذعر من ظاهرة الحجاب، وقررت فرنسا في عهد الرئيس السابق جاك شيراك أن تقود حملة شعواء ضد الحجاب فأصدرت قانونا جرى تطبيقه ابتداء من أيلول (سبتمبر) 1404 يحرم ارتداء العلامات والرموز الدينية في المدارس الحكومية، وكان الهدف الأول من هذا القانون الحجاب الإسلامي، وأدى تطبيق هذا القانون إلى امتناع بعض الفتيات المسلمات المحجبات عن الذهاب إلى هذه المدارس والحرمان من التعليم، فالحجاب بالنسبة لهن ليس مجرد علامة أو رمز ديني ليس على من لا يرتديه أي جناح، وإنما هو واجب شرعي يأثم تاركه.
ولقد جاء هذا القانون على خلاف الرأي الذي سبق أن أبداه مجلس الدولة الفرنسي في 27/11/1989، ومفاده أن ارتداء إشارات التعبير عن العقيدة لا يمثل انتهاكا لمبدأ العلمانية طالما أن الطالبة لم تخضع لأي ضغوط أو أن هذا التعبير لا يمثل ضررا للنظام العام. ولكن بعض فقهاء القانون اعتبروا هذا الرأي خروجا عن مفهوم العلمانية، لأن ارتداء ملابس معينة كالحجاب يمثل في حد ذاته مظهرا من مظاهر العقيدة الدينية.
ثم دخلت فرنسا مرحلة جديدة في معركتها ضد اللباس الإسلامي، ففي يوم الإثنين 22/6/2009 أعلن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في خطاب أمام البرلمان الفرنسي أن البرقع أو النقاب الذي يغطي المرأة من رأسها إلى أخمص قدميها غير مرحب به في فرنسا، فهو من وجهة نظره يشكل علامة (استعباد للمرأة). وأضاف قائلا: (لا يمكن أن نقبل في بلادنا نساء سجينات خلف سياج ومعزولات عن أي حياة اجتماعية ومحرومات من الكرامة). وتابع (هذه ليست الرؤية التي تتبناها الجمهورية الفرنسية بالنسبة لكرامة المرأة). وأعرب عن تأييده لقيام لجنة تحقيق حول مصير الحجاب الكامل في فرنسا التي كان 60 نائبا قد طالبوا بها، في خطوة وصفها بعض المراقبين بأنها إعادة الجدل حول العلمانية، وهي من القضايا الحساسة في السياسة الفرنسية. وصرح المتحدث الحكومي لوك شاتيل بأن إصدار قانون يمنع ارتداء البرقع هو أحد الخيارات الجدية المتاحة.
والواقع أن حملة الرئيس الفرنسي ساركوزي ضد النقاب سبقتها حملات في دول أوروبية أخرى، ففي عام 2004 قررت بلدية بروكسل، عاصمة بلجيكا، توقيع غرامة مالية مقدارها 150 يورو على ارتداء النقاب، كما أن جاك سترو، وزير الخارجية البريطاني السابق دعا في مقال نشرته إحدى الصحف البريطانية عام 2006 المسلمات المنقبات إلى نزع نقابهن، لأن ارتداء النقاب من وجهة نظره سيؤدي حتما إلى جعل العلاقات في المجتمع أكثر صعوبة.
وتثير هذه المطالب جدلا كبيرا، حيث يعدها عدد كبير من ممثلي الأقليات الإسلامية تدخلا غير مشروع في الحريات الشخصية الفردية للمسلمين وتقييدا لحريتهم في ممارسة شعائرهم الدينية.
وما زالت معركة فرنسا، وأوروبا من خلفها، مع الحجاب واللباس الإسلامي مستمرة. وفي تقديري أن الهجوم المستمر على الحجاب والزي الإسلامي يعد عاملا من عوامل تأجيج جذوة الكراهية ضد المسلمين والخوف منهم أو ما يسمى بظاهرة (الإسلامفوبيا). ولعل أحدث ضحايا هذه الظاهرة المواطنة المصرية المسلمة (مروة الشربيني) التي قتلت داخل إحدى المحاكم الألمانية في مدينة دريسدت على يد متطرف ألماني بعد مشادة جرت بينهما، اتهم خلالها هذا المتطرف المرأة المسلمة بالإرهاب بسبب ارتدائها الحجاب.
إن منظمات حقوق الإنسان العربية والأوروبية مطالبة بأن تتحرك وتتخذ من هذا الحادث الأليم منطلقا لمضاعفة الجهد في مواجهة خطاب الكراهية ضد المسلمين في أوروبا. والملاحظ أن العلمانية في جانبها المتشدد المانع لوجود أي دين في الحياة العامة، قد أصبحت في حد ذاتها دينا يسعى معتنقوه إلى فرض سيادته على الأديان الأخرى في المجتمعات الأوروبية حتى ولو كان ذلك يتناقض مع قيم الحرية والديمقراطية التي يتشدق بها الغرب. وليس في تقديري من سبيل إلى ضمان التعايش السلمي بين الأديان في أوروبا إلا بتطبيق الحل الإسلامي الوارد في الآية الكريمة (لكم دينكم ولي دين).
وفي الختام أقول: لقد كتب كثيرون حول معركة الحجاب أو اللباس الإسلامي الدائرة الآن في فرنسا وغيرها من دول أوروبا، ولست هنا بصدد استعراض الآراء المتعددة التي قيلت في هذا الخصوص، وإنما أود الإشارة إلى أن من أفضل ما قرأت كتعبير عن رأي المرأة المسلمة في هذا الشأن، مقالين، الأول بعنوان (منع النقاب بعد منع الحجاب) للدكتورة نورة خالد السعد، المنشور في جريدة ''الاقتصادية'' على جزءين، الجزء الأول بتاريخ 30/6/2009، والجزء الثاني بتاريخ 2/7/2009، والمقال الثاني بعنوان (النقاب ليس بدعا في الإسلام) للدكتورة أميمة أحمد الجلاهمة، المنشور في جريدة ''الوطن'' بتاريخ 5/7/2009، وأوصي كل من لم يطلع على هذين المقالين من المهتمين بهذا الشأن أن يقرأهما لاحتوائهما على معلومات مفيدة وآراء قيّمة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي