فوز الغرب
فاجأ التحالف الذي كافح منذ عام 2005 لانتزاع الحكم في لبنان الجميع، بل وفاجأ حتى عديدا من أتباعه، حيث حصل في الانتخابات العامة التي كانت المنافسة فيها حادة على أغلبية برلمانية كبيرة. وأفرح فوزه القوى الغربية التي تدعم تجمع الأحزاب الإسلامية السنة والدرزية والمسيحية، الذي يعرف باسم تحالف الرابع عشر من آذار، تيمنا بتاريخ الانتفاضة الشعبية عام 2005 ضد التدخل السوري في الدولة. ويقود هذا التحالف سعد الحريري، نجل رفيق الحريري، رئيس الوزراء السابق الذي تم اغتياله.
وقد أذهل هذا الفوز معارضيه، وهو تحالف من الأحزاب الإسلامية الشيعية والأحزاب المسيحية الساخطة، المدعومة من قبل إيران وسورية، ويشكك علانية، وأحيانا بصورة عنيفة، بشرعية تحالف الرابع عشر من آذار. ولكن لعل الأكثر إثارة للدهشة هو تقبل المعارضة الهزيمة في المنطقة التي تقاوم الديمقراطية.
وحين أدلى بصوته في السابع من حزيران (يونيو)، أعلن نبيه بري، رئيس البرلمان الذي انتهت ولايته وقائد حزب أمل الشيعي، بثقة أن التصويت هو استفتاء على "المقاومة". وكان بذلك يشير إلى الميليشيا الشيعية القوية المستقلة، التي يسيطر عليها حليفه حزب الله، والتي خرجت بصورة دموية وحققت النصر في الحرب مع إسرائيل في تموز (يوليو) 2006. ويعلم بري أن باستطاعته الاعتماد على الدعم القوي من الشيعة، الذين يشكلون ثلث سكان لبنان البالغ عددهم 4 ملايين نسمة والذين قد يكونون عدائيين تجاه الدولة اللبنانية التي كثيرا ما تتجاهل مصالحهم.
وقد صدق أيضا التوقعات بأن يصوت المسيحيون، الذين يشكلون نسبة الثلث أيضا من السكان، للحزب الذي يرأسه ميشيل عون. ويجتذب الجنرال السابق ميشيل عون العدد الكبير من المسيحيين الذين يبحثون عن زعيم قوي. ويميل مؤيدوه إلى اعتبار الأحزاب المسيحية داخل تحالف الرابع عشر من آذار مشوهة السمعة بسبب دورها في الحرب الأهلية في لبنان، وبسبب ارتباطها مع الأحزاب الدرزية والسنية التي يعدها الكثيرون فاسدة ومعادية على مر التاريخ للمسيحيين.
وكان بري محقا بشأن الاستفتاء، ولكنه كان مخطئا فيما يتعلق بالانتخابات. فعلى الرغم من أن 54 في المائة من الناخبين يدعمون المعارضة، إلا أنهم يفعلون ذلك في الأماكن التي تؤدي فيها الكثير من الأصوات إلى إيجاد عدد أقل من أعضاء البرلمان. وبصورة رئيسية، كان أولئك الذين صوتوا ضد المقاومة يصوتون في المناطق التي لها أهمية أكبر بشكل متناسب. وكان اختيارهم يعكس المخاوف بين غير الشيعة بأن قوة التمرد أداة في يد إيران وأنها تقوض الدولة اللبنانية التي تحميهم. ويلوم كثيرون حزب الله على إشعال فتيل حرب عام 2006، التي تسببت في مقتل 1.200 لبناني وتشريد الآلاف. ويتم انتقاده أيضا بسبب الاستيلاء السريع المذل، وإن كان لفترة وجيزة، على المناطق السنية في بيروت من قبل المقاتلين الشيعة العام الماضي.
وعرض القوة هذا مدفوع بتحركات تحالف الرابع عشر من آذار لكبح جماح ميليشيات المقاومة، في ظل الضغوط الغربية لدعم الجيش والشرطة اللبنانية. إلا أن عرض الشيعة لقوتهم في الشوارع أجبر تحالف الرابع عشر من آذار على قبول مطالب المعارضة. وكان المطلب الرئيسي هو الحصول على حصة تمتلك الفيتو من المقاعد الوزارية من أجل "حماية" المقاومة من تدخل الدولة. والمطلب الآخر هو تغيير تقسيم المناطق الانتخابية، التي يزعم مناصرو ميشيل عون أنها "خففت" الأصوات المسيحية عام 2005، ما أدى إلى تمثيل ناقص في الحزب. وتساعد حقيقة كون المعارضة حصلت على هذه التنازلات ومع ذلك خسرت على تفسير سبب تقبلها للهزيمة.
إلا أن حصول تحالف الرابع عشر من آذار على 71 مقعدا في البرلمان من أصل 128 يسلط الضوء أيضا على عيوب الديمقراطية المعقدة في لبنان، التي تخصص مقاعد لكل من الطوائف الدينية المعترف بها، والبالغ عددها 16، وفقا لمقاييس تعداد السكان القديمة جدا، في إطار صيغة تقسم البرلمان بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين. واستغل التحالف عدم التوازن بين حجم الدوائر الانتخابية وعدد أعضاء البرلمان، واكتسب بذلك ميزة مهمة من الإقبال الهائل من قبل الناخبين السنة في المناطق المسيحية، ما يعكس كلا من التغيرات الديموغرافية والنفوذ المالي للآلة السياسية السنية. وأكثر من عانى من خسائر المعارضة هم السياسيون المستقلون المتحالفون معهم. وأنزل "حزب الله"، الذي تجنب في الماضي الاشتراك بصورة كبيرة فيما يسميه السياسة الانتخابية "القذرة" 11 مرشحا فقط، وقد فازوا جميعهم بهامش ضيق.
ويعكس استمرار الانقسام بين السنة والشيعة المنافسات بين القوى الخارجية التي تعد لبنان مسرحا للمصالح المتنافسة. وهذا يعني أنه من غير المرجح أن يؤدي فوز تحالف الرابع عشر من آذار إلى تسوية الخلافات التي أفسدت السياسة, إلا أن هناك حلا وسطا يلوح في الوقت الراهن. وما يساعد على هذا الرياح الدافئة التي تهب من أمريكا تحت ظل الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، فيما يثير نشوء تيارات قوية في إيران، التي أجرت انتخابات خاصة بها، تدعو للتسوية مع الغرب. وإذا استطاع تحالف الرابع عشر من آذار تلطيف انتصاره، واستطاع "حزب الله" تخفيف شكوكه، قد تقدم لبنان مفاجأة أخرى، حيث تظهر مرة أخرى باعتبارها نموذجا للتعايش السلمي والمربح, كما كانت قبل الحرب الأهلية.