الحلم يتحول إلى كابوس
يتعرض الإنسان كل يوم إلى عمليتين بيولوجيتين في خلاياه هما الهدم والبناء. فنحن نفقد آلاف الخلايا بفعل الشيخوخة التي تزحف والإجهاد ونربح آلافا أخرى بفضل التغذية والرياضة.
وكما قال فيلسوف الرومان هوراس فإن كل ما يصدر عن الإنسان له حكم الإنسان. وهنا نحاول التطبيق على السلوك الاقتصادي للإنسان فهو ينفق فيخسر أموالا ويعمل أو يدخر أو كلاهما فيكسب أموالا.
وقد عبر أعظم وزير اقتصاد في العصر الحديث وهو الألماني دكتور شاخت عن هذه الحالة عندما عرّف الفقر والغنى.
فقال إن تربح ألف مارك فقط وتنفق تسعمائة وتسعين فأنت غني لأنك استغنيت عن بعض مالك وأدخلته في حساب ادخارك، أما إذا كان دخلك مليون مارك وأنفقتها بالكامل واضطررت إلى الاقتراض أو الاستدانة ولو بعشرة ماركات فأنت فقير لأنك لم تف باحتياجاتك.
وكما يجمع الاقتصاديون فإن المستهلك هو الحلقة الأخيرة والمهمة في دائرة الاقتصاد، فمن أجله تدور عجلات المصانع ومن أجله تنطلق أدوات الإنتاج. وإذا قل إقباله على السلع حدث كساد وبطالة ومشكلات عديدة، لذلك تنحو المجتمعات الرأسمالية إلى حث شعوبها على الاستهلاك لتستمر عجلة الرخاء والاستقرار والتكامل بين كافة عناصر العملية الاقتصادية.
والولايات المتحدة هي أكبر مجتمع إنتاجي واستهلاكي في العالم.
وقد سمعنا كثيرا عن الحلم الأمريكي حيث يجد المواطن كافة احتياجاته وتتفنن وحدات الإنتاج والمصانع والشركات في عرض كل جديد للحفاظ على نزعة الاستهلاك، وكلنا يعرف الإنفاق الهائل الذي يتوجه لشركات الإعلان والمليارات التي تخصص لمهاجمة الشاشة البيضاء وذلك لتمطرنا بوابل من محفزات الشراء.
وقد شرح لي صديق مقيم في الولايات المتحدة منذ أكثر من 30 عاما مسيرة المواطن الأمريكي من المهد إلى اللحد ويسمونها طرافة من المهد إلى المقبرة From Gradle to Lemetery. أو من الرحم إلى القبر From Womb to Tomb فهو يستمتع بطفولة رائعة حيث تتوجه كل أجهزة الدولة إلى دعمه من أمور صحية وتعليمية واجتماعية وترفيهية.. إلخ.
بعد ذلك يتخرج الطفل بعد أن يصبح شابا، ويحصل على راتب من عمل مناسب، وهنا يدخل في ماكينة الاقتصاد التي لا تتوقف، فهو يجد الأموال تطارده – كديون بطبيعة الحال – فيقترض ليبني بيتا (الرهونات التي تسببت في الكارثة الحالية) ويقترض ليشتري سيارة ثم كافة الأجهزة المنزلية، ثم يسلمونه بطاقة ائتمان ليشتري وقتما شاء – ولم يتم ذلك من أجل زرقة عينيه (كنت أود أن أستخدم المثل العربي من أجل سواد عيونه ولكني تذكرت الفرق في لون العيون).
ولكن من أجل أهداف أجل وأعظم هي:
أن تجري عجلة الاستهلاك فتحرك قطار الاقتصاد.
أن ينفق المواطن كل قرش كسبه في حياته فلا يورث شيئا لأبنائه (فيما عدا نسبة ضئيلة من كبار الرأسماليين، وهؤلاء عادة تكون أموالهم في هيكل شركات ومصانع). وبذلك لا تنشأ طبقة الوارثين على المدى البعيد – فيظل المجتمع عفيا لأن كل أفراده يعملون.
وبالنسبة لنا الذين نشاهد الأمريكيين على البعد سواء عبر الشاشات أو التلفزيون أو حكايات العائدين.. إلخ، فنحن نرى كل جميل، ولا نرى الآلام التي تصاعدت هذه الأيام وتفاقمت وتبلورت في أزمة سببها انعدام التوازن بين الحالة النقدية والحالة الفعلية للسلع والخدمات التي هي نتاج جهد فعلي.. فاللعب بالأموال في الرهونات والبورصات والتعامل مع الاقتصاد على أنه بنكنوت يجري تداوله سبب عديدا من المصائب.
كان من أعراض المرض ما لاحظه الخبراء من ارتفاع مرتبات كبار المسؤولين في الشركات بصورة مذهلة بلغت الملايين مع أن جهدهم – وإن عظم – لا يستحق ذلك، وإنما بلغوا ذلك بقواعد العرض والطلب والثقة والسمعة التي قد تصنعها وسائل الإعلام أو ثلة الأصدقاء التنفيذيين. ومن سوء الحظ انتقال هذه الظاهرة إلى بلادنا بكل ما تحمله من نذر الشر.
وبعد وقوع المحظور وانكشاف المستور نستمع اليوم إلى نداء يوجهه الرئيس أوباما الذي جاء لإصلاح تجاوزات الداخل بأن تنفق كل أسرة على قدر إمكاناتها.
فهل أدى الكابوس الاقتصادي الجاثم إلى تغيير المفاهيم وتحويل الحلم الأمريكي الذي عاش على قيمة الاستهلاك إلى سراب نراه في طوابير العاطلين وصيحات المحبطين؟
وهل تؤدي الأزمة لأن نقول وداعا لسفه الاستهلاك؟
ونضيف عليها: مرحبا بتدخل الحكومة؟
ونسأل هل أصبحت أمريكا دولة أخرى تستمد بعض مقوماتها من مبادئ ألد أعدائها السابقين: الاتحاد السوفياتي؟
ندعو الله أن يجنبنا شرور الأزمة ويهدينا إلى سواء السبيل.