منطقية الربط بين سعر البنزين واستهلاكه (2)

تلعب البيانات والإحصاءات دوراً كبيراً في توجيه متخذ القرار لاتخاذ القرار الاقتصادي المناسب، بيد أن الإحصاءات تعد أكثر المجالات مرونة من حيث عرضها بطريقة قد تخدم أهداف وتوجهات فئات محددة من الأشخاص، وبما يؤدي إلى تضليل العامة ومتخذ القرار في اتخاذ القرار الاقتصادي الصحيح والملائم. لذلك يقول مارك توين إن هناك ثلاثة أنواع من الكذب: (الكذب، الكذب الملعون، والإحصاءات) على قاعدة أن الإحصاءات تعتمد على الأرقام التي يمكن أن يتلاعب بها الأشخاص لدعم مواقفهم.
الملف الشهري الذي تعده "الاقتصادية" بمشاركات من عدد من الزملاء الاقتصاديين تناول هذا الشهر قضية جديدة, وهي قضية ارتفاع استهلاك المشتقات النفطية في المملكة, وبالتحديد البنزين. وعلى الرغم من تقديري للجهود التي بذلت لتقديم ملف يتناول قضية حيوية ومهمة لاقتصادنا الوطني، إلا أن الطريقة التي تناول بها بعض المشاركين في الملف قضية استهلاك المنتجات النفطية لم تستند إلى أسس علمية منطقية ومقبولة، وإنما استندت إلى تناول مجتزأ للإحصاءات يهدف إلى ربط ارتفاع استهلاك المشتقات النفطية بانخفاض أسعارها في المملكة. وهنا أستعرض بعض تلك الإحصاءات التي استخدمت في محاولة لتأكيد دور السعر المنخفض في الاستهلاك الكبير للمشتقات النفطية.
السعودية تستهلك من الوقود في يوم واحد ما يستهلكه مليار نسمة في الهند
في الحلقة الثالثة من الملف ذكر اقتصادي سعودي متخصص في شؤون الطاقة (فضل عدم ذكر اسمه) أن استهلاك المملكة من الوقود بلغ اليوم مرحلة حساسة يجب التنبه إليها، وأضاف "يكفينا أن نعلم أن مليار نسمة في الهند يستهلكون مليوني برميل يوميا وهي كمية الاستهلاك السعودي نفسه للوقود". وكل اقتصادي (وغير اقتصادي) يعرف أن المقارنة بين الهند والمملكة بهذه الطريقة أمر غير مقبول علميا، فهي كمن يقارن بين الناتج المحلي الإجمالي للهند والمملكة ويستنتج على أساسه أن الهنود أغنى من السعوديين. لكن المقارنة ستكون مقبولة عندما يتم احتساب نسبة الناتج المحلي إلى عدد السكان ومن ثم يتم احتساب الناتج الإجمالي المحلي على مستوى الفرد.
وبالمثل إذا أردنا أن نجعل المقارنة بين استهلاك المشتقات النفطية مقبولة عمليا فيجب أن تكون على أساس نسبة الاستهلاك الإجمالي من المشتقات النفطية إلى عدد المركبات في كل دولة, لأن الاستهلاك للمشتقات النفطية يرتبط هنا بتوافر المركبات من عدمه. كما أن ذلك لا يعد كافياً للمقارنة إذ قد تكون أطوال الطرق في المملكة أكبر منها في الهند ما سينعكس على مستوى الاستهلاك في المملكة، ما يستدعي نسبة الاستهلاك للمشتقات النفطية لكل مركبة إلى أطوال الطرق بالكيلو مترات في الدولة.
نمو الاستهلاك ونمو الإنتاج ونمو السكان>
في الحلقة الثانية عشرة من الملف أشار الاقتصادي البتال إلى أن الفترة ما بين عامي 1987 و2007 شهدت نمواً كبيرا في حجم الاستهلاك المحلي للمشتقات النفطية مرتفعا من 653 ألف برميل يوميا عام 1987 يشكل ما نسبته 45 في المائة من إجمالي حجم الإنتاج الفعلي إلى نحو 1.05 مليون برميل يوميا عام 2007، يشكل ما نسبته 75 في المائة من إجمالي حجم الإنتاج الفعلي. ويمثل هذا النمو زيادة في الاستهلاك المحلي تصل إلى 161 في المائة على مستويات عام 1987، وفي المقابل ارتفع حجم الإنتاج الفعلي من المشتقات النفطية خلال الفترة نفسها بنسبة 35 في المائة من 1.385 مليون برميل يوميا عام 1987 إلى 1.87 مليون برميل يوميا عام 2007.
وللتصحيح فقط فإن الزيادة الفعلية في معدل استهلاك المشتقات النفطية خلال الفترة ما بين عامي 1987 و2007, أي خلال ما يقارب 20 عاماً لم تتجاوز 61 في المائة وليس كما أشار التقرير 161 في المائة. أضف إلى ذلك أن نمو الإنتاج الفعلي يدلل على أن المشكلة لا تقتصر على جانب الاستهلاك، بل إن هناك قصوراً في جانب الإنتاج من المعادلة الذي يركز في الغالب على التصدير للنفط الخام بدلاً من الأخذ في الحسبان أولوية تأمين الاحتياجات المحلية الأساسية من الوقود. ويدلل على ذلك عدم تعرض التقرير للجزء الآخر من المقارنة المتعلق بمعدل نمو السكان الذي تضاعف خلال الفترة ما بين 1987 و2007 في حين لم تتجاوز زيادة الاستهلاك 61 في المائة، بما يعني أن معدل زيادة الاستهلاك والإنتاج من المشتقات النفطية أقل بكثير ولا يتناسب مع معدل زيادة السكان، مما لا يبرر اتهام المواطن بالاستهلاك غير المبرر على قاعدة انخفاض السعر، لأن مرونة الطلب السعرية على البنزين منخفضة بحكم أنه سلعة ضرورية (وكما أشرت في مقال الأسبوع الماضي)، وارتفاع سعره (انخفاضه) لن يؤدي إلى تغيير نمط استهلاكه إلا إذا كان ذلك الارتفاع (الانخفاض) كبيراً جداً.
انعدام البدائل
في الحلقة الثالثة عشرة من الملف أشار الدكتور سامي الدبيخي إلى أنه يوجد في الرياض نحو مليون سيارة، وأن معدل تملك السيارة على مستوى المجتمع منخفض في الرياض مقارنة بمدن عالمية أخرى، حيث يبلغ في الرياض 224 سيارة لكل ألف شخص، بينما 600 سيارة لكل ألف شخص في أمريكا، و500 في أستراليا، و524 في كندا، و390 في أوروبا. ورغم ذلك، فإن استخدام المركبة الخاصة في التنقل مرتفع جدا بلغ 92 في المائة، لعدم وجود نقل عام يعتمد عليه ويوفر خدمة وشبكة متكاملة بتقاطر منتظم, وهذا مع الأسف وضع بقية المدن السعودية.
وبعد كل ما ساقه الدكتور الدبيخي, وهو أحد المتخصصين في هندسة النقل عن أوضاع النقل, خصوصاً معدل استخدام المركبة الخاصة في التنقل البالغ 92 في المائة، فهل بقي ما يبرر ربط ارتفاع الاستهلاك للمشتقات النفطية بسعره أو أن ذلك يرجع إلى عوامل أخرى من أهمها انعدام البدائل الذي يقلل من مرونة الطلب السعرية على المشتقات النفطية وبالتحديد البنزين؟ وبالتالي فإن أي خطوة لرفع سعر البنزين في ظل الظروف الحالية ستكون خطوة غير فاعلة في تخفيض الطلب عليه، بل ربما تؤدي إلى آثار سلبية اجتماعية لا تحمد عقباها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي