العبقرية اليونانية

لن تستطيع أن تطأ نفس النهر بقدمك مرتين!
هذا ما ينص عليه قانون الصيرورة عند هرقليطس
هذه أهم جملة نقلت عن هذا الفيلسوف الغريب الأطوار هيرقليطس (Heraclitus) الذي عاش في سيرسا عام 500 قبل الميلاد.
بل ذهب تلميذه كراتيلوس (Cratylus) بتوسيع الفكرة إلى القول:
لن تستطيع أن تطأ بقدمك نفس النهر قط؟
ولعله أراد بذلك سرعة تدفق التغيرات!
ثلاث أفكار رئيسية تجمل فلسفة هذا الرجل، الحرب هي أم كل الأشياء. ولن يضع المرء قدمه في نهر واحد مرتين. والكون يقوم على الصراع الذي ينتهي بالاتحاد والتناغم. وهناك صيرورة متدفقة في الكون.
وكل يوم هو في شأن.
وفي الغالب لم يفهم الرجل على نحو واضح، مع أن نظرته للعالم تتمتع بشيء كبير من القوة والتماسك، فحواسنا تضللنا كثيرا عن الحقيقة المختبئة.
وهو ما يقوله القرآن بتعبير مختلف:
"يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون".
ومن أقواله العجيبة أن الجبل في أي مكان نازل وطالع بنفس الوقت، حسب المكان الذي أنت فيه؟ فلنتأمل البعد الفلسفي؟
ومما قال إن النهر لن يبقى نهرا لو بقي كما هو بدون تغير؟
ولعلنا نحزر من أقوال هذا الفيلسوف أنه يريد دفعنا للتفكير دوما؟
وأن المعرفة مصدرها العقل وليس الحواس، إذا لما افترق البشر عن البقر فالكل عنده نفس الحواس!.
إنه حومان حول الحقيقة ولكن رحلة العلم ما زالت طويلة.
وهي ما دفعت إيمانويل كانط أيضا إلى نظرته حول الأفكار القبلية.
أي الموضوعة في عقولنا قبل أن نتعلم أي شيء، مثل برامج الكمبيوتر التي لم تشغل، وبواسطة هذه الأفكار البديهية تنمو عندنا المعرفة.
وحاول هرقليطس في النهاية أن يصل إلى أصل الأشياء؟ فإذا كان كل شيء يتغير فما هو الثابت؟ هل هي النار؟ فهل النار هي أصل كل شيء؟ أم هي أربعة كما ذهب إلى ذلك ايمبيدوكليس؟ أم أن أصل الأشياء هي الذرة الآتوم الجزء الذي لا يتجزأ، كما اقترب من الحقيقة قليلا (الذري) ديموقريطس، وكسرها أوتو هان الألماني بتجزؤ الذرة، وفجرها آينشتاين بالنسبية وعلاقة الطاقة بالمادة فخرج مردة الشر من جهنم بعد أن كانوا مسلسلين؟
ولا نعرف أين سينتهي الجنس البشري؟ وبالطبع كان أمام فلاسفة اليونان مشوار أكثر من ألفي سنة ليسمعوا بتجربة معهد سيرن من سويسرا خريف عام 2008م من أجل استحداث النار الكونية العظمى، حين ولد الكون قبل 13,7 مليار سنة بطاقة حرارية تبلغ 2 مليون مليون درجة!
وما قاله الفيلسوف اليوناني هيرقليطس يجب فهمه في ضوء الأحداث التي عاصرها قبل موته من أحداث جسام انتهت على حد السيف؛ فقبل أن يموت بسنتين قام الملك الفارسي كزركسيس باجتياح بابل بعد حدوث تمرد فيها، ليدمرها تدميرا ومعها تمثال الإله مردوك الذي كان يتعبده البابليون. وقبل ذلك بثماني سنوات شهد حملة الملك الفارسي داريوس عام 490 قبل الميلاد على بلاد الإغريق، التي انتهت بمعركة ماراثون وهزيمة داريوس، وقبل أن يموت شهد الاستعدادات الضخمة لحملة جديدة على بلاد الإغريق. وهكذا فجدل الأحداث والتاريخ رحم يتمخض منها الفكر فيولد ولادة عجيبة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي