تعزيز اهتمام المواطنين بالشأن العام

هناك قضايا وموضوعات عامة على درجة كبيرة من الأهمية يغفل عنها كثيرون، لا تسترعي انتباههم، ولا يلقون لها بالا، خاصة تلك التي لا تمسهم مباشرة تختفي وراء الموضوعات المعيشية الملحة وتضيع في غمرة تزاحم الناس على اقتسام الكعكة الاقتصادية والانشغال في الحاضر دون المستقبل. هذه الموضوعات تتطلب إمعانا وتدبرا ونظرة شاملة وقدرة على التحليل والربط بين المنفعة الخاصة والمنفعة العامة ورؤية مستقبلية بعيدة المدى مبنية على تطلعات وطموحات لمجتمع أقوى اقتصاديا وأنضج سياسيا وأرقى حضاريا. لقد أصبح جليا التسابق المحموم نحو تحقيق المصالح الذاتية الآنية وهو أمر محمود لولا أنه يكون في أكثر الأحيان على حساب المصلحة العامة. فالمصلحة العامة فكرة لا يمكن إدراكها من خلال النظرة الخاصة وأنانية الذات، وإنما عبر رؤية مشتركة وأطر أخلاقية وقانونية وقناعة تامة أن الجميع في السفينة نفسها وأنه لا يمكن تحقيق كثير من المنافع إلا بالعمل الجماعي الذي يقود لتنمية المجتمع المحلي والارتقاء به اقتصاديا وحضريا. ومن خلال تجربتي في الكتابة الصحافية وجدت أن كثيرا من القراء تستهويهم الموضوعات الجدلية أو المتعلقة بمصالحهم الخاصة دون الموضوعات الأكثر عمومية والأقل وضوحا والأطول أمدا. فعلى سبيل المثال قضية قيادة المرأة السيارة أو مشكلة هبوط مؤشر سوق المال أو تلك الموضوعات التي تخص هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو فتوى جديدة أو مشكلة الإسكان، جميعها موضوعات تشغل الرأي العام وتجتذب العموم وتستحوذ الاهتمام وتجد صدى كبيرا فضلا عن موضوعات الرياضة والفن التي هي الأخرى تحتل فضاء واسعا وأولوية كبيرة من النقاشات العامة، بينما موضوعات مثل الإدارة المحلية والتنمية الاجتماعية والعمل التطوعي والحفاظ على البيئة تعد بالنسبة لكثيرين هامشية خارج دائرة اهتمامهم وغير معنيين بها! ولذا نجد أن هناك صحفا محلية حققت شعبية عارمة وأصبحت واسعة الانتشار في طول البلاد وعرضها بزمن قياسي لم يتجاوز بضع سنوات، بالعزف على وتر الموضوعات الجدلية المؤدلجة وتبنيها قضايا الإثارة وتعظيم الأمور وإخراجها عن سياقها لدغدغة مشاعر الجمهور وإثارتهم بطرح فكري معارض واتباع أسلوب "خالف تعرف". إن اختزال الاهتمام بالشؤون العامة في هذه الدائرة الضيقة والسطحية إسفاف يعزز ثقافة سلبية انسحابية لدى شريحة كبيرة من الناس اعتادوا على أن يكونوا متفرجين انتقاديين منزوعي الإرادة يهوون ردود أفعال عاطفية تهكمية ويخرجون أنفسهم من المسؤولية دون أدنى محاولة للإسهام في التنمية الاجتماعية بالبدء بإصلاح أنفسهم ومن حولهم. لقد ارتضوا البقاء في وضع الارتياح والدعة والسكينة والاتكالية ليتلبسهم اعتقاد أن ليس لهم علاقة بما يجري حولهم وليلقوا باللائمة تارة على الأحداث والمستجدات وتارة أخرى على الأجهزة الحكومية والقائمين عليها.
وجذور المشكلة في ظني تعود إلى سيطرة ثقافة الاستهلاك والوفرة بسبب الاقتصاد الريعي. وهذا يعني أن هناك تنافسا للمباهاة والتفاخر وليس منافسة للإنتاج وتحقيق إنجازات حقيقية على المستويين الشخصي والعام. ولأن العلاقة بين الإنتاج والدخل وبين المدخلات والمخرجات تكاد تكون غامضة في حالات كثيرة فقد تفشى في المجتمع مبدأ "أخذ الكثير بأقل القليل". وأصبح مقياس النجاح في بذل القليل في الحصول على المراد وليس الجد والاجتهاد وتحقيق الأفضل. فالطالب لا يستنكف أن يعلن أمام زملائه أنه اجتاز المادة دون أن يعلم شيئا! أو ذلك الموظف الذي يفاخر بأنه بالكاد يقوم بأي عمل ليقبض آخر الشهر راتبا مجزيا (هذا إذا لم يكن مرتشيا)، أما رجل الأعمال الذي لا يرقب في وطنه إلا ولا ذمة راح يصنع ويبيع ما يضر الناس والبيئة بالغش والتدليس، وهكذا يتكرر المشهد في نواح كثيرة من حياتنا على مرأى ومسمع من الجميع ليستمرئ المنظر ويقبل الوضع ويتحول إلى ثقافة متجذرة لا انفكاك منها، وكأنما ارتضينا كمجتمع أن نتوقف عند مرحلة تاريخية وننشغل بماضينا وحاضرنا دون مستقبلنا وأن نستمر نقتات على ما يصنعه ويزرعه الآخرون ونتخلى عن الإسهام في الحضارة العالمية. فأبناؤنا يتفننون في قيادة سيارات لا نصنعها وربات البيوت يتفنن في طهي ما لا نزرعه والناس تتزين بملابس ليس من إنتاجنا وكأن قدرنا أن نأكل ما لا نزرع وأن نلبس ما لا نخيط وأن نركب ما لا نصنع! وأخشى أن ذلك يوردنا المهالك! فكما يقولون "إن لم تتقدم تَقْدُم"!
السؤال كيف السبيل إلى التحول إلى مجتمع أكثر حراكا اجتماعيا ونضجا حضاريا وإنتاجا اقتصاديا؟! الأمر يتطلب إيجاد نظم اجتماعية تربط بين المدخلات والمخرجات وتركز على النتائج وليس الإجراءات ويفوض سكان المحليات مسؤولية إدارة مجتمعاتهم وتنميتها والتصدي للتحديات والقضايا المحلية. إن المركزية الشديدة والاعتماد على الأجهزة البيروقراطية في عملية صنع القرارات المحلية يقلل من تفاعل المجتمعات المحلية مع قضاياها ويحمل الأجهزة المركزية مسؤولية تحقيق المصالح المحلية كاملة وهو ما لا تستطيعه. وهكذا تكون المجتمعات المحلية دون هوية مسلوبة الإرادة متراخية اتكالية تعتمد دوما على الأجهزة المركزية في علاقة سلبية وباتجاه واحد من أعلى إلى أسفل على توفير الخدمات العامة. في هذا الوضع الإداري المركزي وغياب هيئات محلية مستقلة إداريا وماليا مسؤولة عن إدارة الشأن المحلي تنشأ سلوكيات غير ناضجة وغير راشدة من الأفراد والمؤسسات ليس فيما يتعلق بالتعديات على السلم الاجتماعي والممتلكات العامة وحسب ولكن في عدم الاكتراث للقضايا العامة ومحاولة التعامل معها من خلال توجيه الجهود والموارد نحو تنمية حقيقية تضيف قيمة اقتصادية. الحقيقة التي يجب إدراكها هي أن الأجهزة الحكومية لن تستطيع مهما منحت من الموارد أن تحقق التنمية المحلية بمستوى مرضٍ، وأنه يلزم إشراك القطاعين الخاص والأهلي (مؤسسات المجتمع المدني) في إدارة المجتمع المحلي عبر تهيئة قنوات رسمية للمشاركة الشعبية في صناعة القرار. هذا هو السبيل لإعادة تثقيف المجتمعات المحلية وجعلها تنخرط في أنشطة التنمية إعدادا وإسهاما بوعي تام وفاعلية وكفاءة. ومتى ما أصبحت هناك قنوات للتعبير وآليات لصنع القرار المحلي عبر مجالس نيابية منتخبة يتملك سكان المدن القضايا العامة ويكونون أكثر مسؤولية وأكثر جدية لأنها تعنيهم وتقع في دائرة سيطرتهم. ونافلة القول أن المجتمعات الناضجة تفرز سلوكيات ناضجة واهتماما بالقضايا العامة الجوهرية والعكس صحيح.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي