المسألة الاجتماعية وفهمها ضمن قوانين البناء المعرفي

واجهتني في يوم أزمة عقلية طاحنة أمام الأزمات الاجتماعية ومظاهر الظلم غير المفسرة، وأرويها للقارئ هنا حتى يستفيد منها،وقلدت بذلك الفيلسوف فيتجنشتاين، حين رأيت الظلم الاجتماعي، فقلت ماذا لو ودع الإنسان المجتمع وعاش وحده في غابة؟
أتذكر جيدا تلك اللحظات الصعبة في ظلام المعتقل وأنا لا أكاد أصدق نفسي، معنى الحرية والقيد ومعنى الانحباس في الزمن والثقافة ولعنة السياسة في بلد ما في فترة ما.
هنا تذكرت قول مالك بن نبي أن حظ الإنسان في الدنيا متعلق بالمجتمع الذي يولد فيه، وحمدت الله أنني نقلت ذريتي إلى مجتمعات المستقبل وتوديع ثقافة العصر العباسي التي تحنطت في مربع الزمن أيام المستنصر بالله.
كذلك استفدت من علي شريعتي ومفاهيمه حول جدران البيولوجيا والزمن والثقافة والتاريخ وأنها حيطان تصل إلى درجة الاستحالة في اختراقها.
من هنا جاءت فائدة العزلة التي أنصح بها من حولي من حين لآخر.
لقد فعل هذا تقريبا كل الفلاسفة والمصلحين بشكل وآخر، بمن فيهم نوستراداموس صاحب كتاب التنبؤات الشهير، بعد فقده زوجته وعائلته في مرض الطاعون، الذي اجتاح أوروبا.
لقد اعتكف كارل ماركس في المكتبة البريطانية عشر سنوات قبل أن يخرج بكتابه رأس المال، واعتكف بوذا قبل أن يصل مرحلة النرفانا، وبقي غاندي في السجن سبع سنين عجاف، وأكثر منه نيلسون مانديلا قبل أن يتحول إلى جناح الكفاح السلمي.
وفعل هذا فيتجنشتاين حين ذهب إلى غابات النرويج فبنى لنفسه كوخا اعتزل فيه سنة كاملة.
وهذه المسألة راودت الكثيرين، وطبقها الصوفيون والزهاد، وتورط فيها روبنسون كروزو وحي بن يقظان، ولم يحل لي هذا الإشكال إلا بضع كتب، ولكنها قلبت عقلي فعلا؛ فأصبحت أنظر إلى المسألة الأنثروبولوجية على نحو مختلف، وعرفت معنى المجتمع للإنسان، الذي يختصر بكلمة واحدة، أننا لولا المجتمع ما كنا بشرا على الإطلاق لغة وسلوكا وحضارة، فالمجتمع مع أنه مع الدولة السياج الحديدي، وورطة للجنس البشري، تقترب فيه أحيانا الدولة بطغيانها مع مستوى الفوضى في الغابة، ولكن تبقى هي محضن الحضارة.
هذا اللغز انفك معي حين قرأت مقدمة ابن خلدون، وأثر الغذاء والمدافعة في ضرورة المجتمع، ثم كتاب (بنو الإنسان) لبيتر فارب من سلسلة عالم المعرفة الكويتية عن وظيفة الأسرة الرباعية، ثم كتاب مالك بن نبي عن ميلاد مجتمع، وكيف تموت المجتمعات، ووصلت إلى حقيقة مرة في مظاهر موت المجتمع العربي، ثم الأبحاث التي اطلعت عليها باللغة الألمانية مع ثورة علم الألسنيات والأنثروبولوجيا (علم الإنسان).
وما أريد التركيز عليه مع ذخائر الفكر الإنساني أن هناك من الكتب ما تنام وأنت تقرؤه، ومن الكتب ما يصدمك للأعماق، ومنها ما يغيرك فعلا.
ومن هذه الكتب كتاب مسألة الآخر اكتشاف أمريكا لأستاذ السوربون تزفتيان تودوروف، أو قصة آخر الراحلين، في نهاية شعب الوبيخ القفقاسي، أو الكتاب الأسود للمخضرم الشيوعي كورتوا، حيث بقيت مصدوما ثلاثة أيام مع كارثة إبادة شعوب أمريكا الأصليين، وإبادة أحد شعوب شمال القفقاس بتفريغ المنطقة وبسياسة مشتركة بين الباب العالي وقيصر روسيا، وإبادة مائتي مليون نسمة تحت مظلة الشيوعية..
فقلت في نفسي كم الحياة الإنسانية رخيصة..

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي