الأمن الفكري: البعد الاقتصادي
أتى مؤتمر الأمن الفكري كعلامة واضحة للرغبة في تغيير الأفكار النمطية السائدة، ومحاولة جادة لترسية مزيد من العقلانية للنواحي الاجتماعية في المجتمع. الأمن الفكري هو البذرة الأولى لبناء مجتمع متكامل، ولا يمكن لأي مجتمع أن يتقدم دون شمولية المعادلة الأمنية، هناك أجزاء كثيرة لهذه المعادلة الصعبة، منها الجانب الفكري الذي يطمح أن يؤسس المنصة الثقافية لانطلاقة المجتمع، ومنها الرؤية السياسية، ولكن في المطاف الأخير هذه لن تجدي نفعا دون وقود الانطلاقة: البُعد التنموي والاقتصادي.
الركيزة الفلسفية المبسطة تقوم على حقيقة أنه يجب أن يشغل الناس بما يفيدهم روحيا واجتماعيا وماديا. الناس تعيش على أكثر من الخبز (المادة الاقتصادية) ولكن وضوح الرؤية وسلم التنمية الاقتصادية خاصة في ظل نمو سكاني متوال يجعل من السعي للعيش الطريق الأسلم لبناء مجتمع محصن فكريا وسياسيا. الادعاء بأن أحدهم أقل أهمية يخلق مجتمعا مخدوشا يسهل اختراقه، وهنا نقطة التقاء رئيسة مع معادلة الأمن الفكري. الظرف التاريخي اليوم – وبمساعدة واضحة من تداعيات عصر العولمة – يشهد تقاطع قوى سياسية وفكرية وعاطفية تجعل من المجتمعات أفرادا وقيادات وتنظيمات رسمية وغير رسمية في حالة من الإهمال والهيجان والترقب في آن واحد. فك هذه الاختناقات لن يأتي إلا من خلال وضوح الرؤية التنموية. ليس هناك أهم من الإنجازات المادية في ترسيخ الشرعية، الإنجازات التي تقبل القياس هي في الغالب اقتصادية، لذلك تصبح الإنجازات التنموية والاقتصادية هي المدخل الأوضح والأسلم لبناء الهياكل الأمنية عامة من فكرية إلى سياسية إلى اجتماعية. لا بد من تحقيق اختراق، لا بد لهذه العجلة الخيرة أن تدور.
الارتداد إلى الماضي قد يشفي نفسيا من تحديات العصر، ولكنه قد يكون معادلة تخديرية خادعة، فالأفضل دائما أمامنا وليس خلفنا. الخطر الحقيقي هو الركون إلى معطيات يصعب قياسها، وبالتالي قابليتها للتلاعب وضياع الوقت، وبالتالي تسرب الوقود الذي يدفع الهيكل الأساسي. الناتج العملي المطلوب هو تركيز محصلة طاقة المجتمع لإعادة تأهيل برامج التنمية الاقتصادية. القضايا الاقتصادية متشعبة وعميقة، وسبق أن ناقشنا بعضا من أبعادها في مقالة الأسبوع الماضي.
مثال جديد وواضح ومُلح على أهمية العمل الاقتصادي والمخاطر من حولنا أتى في الأسبوع الماضي، حينما أعلنت إدارة أوباما برنامجا شموليا وطموحا للحد من استخدام النفط في قطاع المواصلات الذي يشكل نصف استهلاك أمريكا وأكثر من إنتاج المملكة من النفط. هذا البرنامج يستحق منا انتباها ودراسة معمقة وأخذ العبر والدروس قبل فوات الأوان. الخوف أن نقف عند المنطلقات الفكرية العامة المطاطية ونبذل كل الطاقات في بعض نواحي الحياة على حساب التنمية والبناء المنظم.