يقاس تفوُّق الأمم بمدى رفاهية مجتمعاتها، وتوافر مقومات الحياة الكريمة الأساسية لمواطنيها، ويُعدُّ توافر المسكن الصحي والآمن والملائم للجميع - بدون استثناء - من أهم هذه المقومات. ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا من خلال استراتيجيات إسكانية ذات أهداف واضحة، وخطط عمل دقيقة، وأولويات محددة. وقد وعت الدولة – وفقها الله - أهمية استراتيجيات الإسكان لتيسير حصول المواطن على المسكن الملائم وامتلاكه، فأسندت إعداد استراتيجيات الإسكان السعودية وتحديثها وتطويرها إلى الهيئة العامة للإسكان. وبما أنه قد مرَّ قرابة العامين على إنشاء الهيئة فإن الاستفسار عما تحقق بخصوص استراتيجيات الإسكان أصبح من القضايا التي يرغب الجميع في معرفتها.
إن الرغبة الصادقة في توفير المسكن الصحي والآمن والملائم لكل أسرة سعودية لن يتحقق إلا من خلال الإسراع – بجدٍّ - لإعداد الاستراتيجيات الإسكانية التي تضمن فاعلية إنتاج المساكن الملائمة وتوفيرها لجميع قطاعات المجتمع، وهذه مهمة صعبة ومعقدة؛ لأنه لا يوجد دليل تفصيلي يمكن اتباعه خطوة بخطوة للوصول إلى استراتيجية إسكانية ناجحة، كما أنه لا يمكن استيراد استراتيجيات إسكانية من دول أخرى وتطبيقها لدينا، فلكل دولة خصائصها ومتغيراتها التي يجب أن تؤخذ في الحسبان عند إعداد استراتيجياتها الإسكانية.
وقد يتساءل بعض القراء الكرام عن ماهية استراتيجية الإسكان، ويسرني أن أوضح لهم بأنها خطة عمل تحدد بشكل دقيق الأهداف، وطرق ووسائل تحقيقها، كما تحدد الموارد المتاحة، وأكثر الطرق كفاءة وفاعلية لاستخدامها والانتفاع بها، وتحدد أيضاًَ المسؤوليات والأولويات، وخطط التنفيذ وإطارها الزمني، ومختلف الأنشطة والإجراءات اللازمة لتطبيق الخطط، وكذلك لقياس معدلات تحققها ونجاحها على مر السنين. وتصاغ الاستراتيجيات بناء على التحليل المتعمق والدقيق لبيانات عديدة (مثل: حجم الاحتياج وخصائصه، والموارد المتاحة، وغيرها)، مع أهمية مراعاة أن تتكامل مع بقية الاستراتيجيات والسياسات الوطنية.
إن إعداد الاستراتيجيات الإسكانية الناجحة التي تعمل على تحقيق الازدهار الاقتصادي، والأمن الاجتماعي والسياسي؛ لا يتأتَّى إلا بعنصرين أساسيين: يرتكز العنصر الأول على اختيار "مهندس الاستراتيجية" الملم بخصائص قطاع الإسكان الوطني، والعارف بنقاط قوته وضعفه، والقادر على النظر بشكل شمولي إلى كل العوامل المؤثرة في منظومة الإسكان، وأسباب الإخفاقات السابقة فيها، والوعي بنقاط الاختناق المتوقعة. أما العنصر الآخر فيعتمد على توافر قواعد البيانات الصحيحة والدقيقة عن النمو السكاني وخصائصه، وعن حجم الاحتياج وخصائصه، وعن العرض والطلب على الإسكان، وعن الخصائص الاقتصادية والاجتماعية للسكان، ومستويات الدخل، وحجم سوق العمل المتوافر، ونسب البطالة، والدعم الحكومي المخصص للإسكان (وهل هو دعم عام أم موجه لفئة أو منطقة)، والتمويل ومدى توافره وفاعليته، وتوافر الأراضي وأسعارها، وما يتعلق بحجم قطاع الإنشاء وإمكانياته، وتوافر تقنيات البناء ومواده، والتنظيمات البلدية لتقسيمات الأراضي واشتراطات البناء، وحجم المرافق والخدمات العامة وكفاءتها، ودور القطاع الخاص في سوق الإسكان، ودور المؤسسات الخيرية في توفير المساكن أو تحسينها، وغيرها من البيانات التفاعلية ذات العلاقة.
