الخلق المستمر بدل السببية في الرؤية البيانية
أوضحنا في المقالات السابقة كيف أن الرؤية التي شيدها المتكلمون في الإسلام عن العالم تقوم على التصور الجزيئي للمكان والحركة والزمان. ونريد أن نبين في هذا المقال أن هذا التصور الجزيئي يطرح مشكلة السببية، ومسألة الخلق الإلهي للموجودات، فنقول: إنه لما كانت الجواهر الفردة متماثلة كلها من جميع الوجوه فلا يمكن أن يكون بعضها مؤثرا في بعض، لأن التأثير والتأثر لا يكون إلا بين مختلفات، إذ يجب أن يكون في المؤثر من القوة، أو مما يوجب التأثير، أكثر مما في المتأثر. وهذا لا يصح بالنسبة للجواهر الفردة لأنها عندهم متساوية متماثلة لا اختلاف بينها ولا تفاوت، أيا كان. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالجواهر الفردة التي يتألف منها الجسم تبقى منفصلة مستقلة، لأن اجتماعها، كما قلنا، لا يكون بالتداخل بل بالتجاور، وهذا مما لا يترك مجالا للسببية، لأن التأثر السببي - على الأقل حسب التصور العلمي والفلسفي القديم - يقتضي نوعا من التداخل والاتصال، كما يلزم عنه حدوث تغيير في المتأثر. والجواهر الفردة عندهم كما أنها لا تتداخل فهي أيضا لا تتغير بل تبقى متماثلة ما دامت موجودة... والتغير إنما يكون في الأعراض، كما رأينا. فهل تجد السببية مكانا لها في الأعراض؟
فعلا، إن الأعراض تتغير، وهي إنما سميت أعراضا لأنها تتغير. وأكثر من ذلك ينص أحد المبادئ الأساسية لنظرية الجوهر الفرد، كما رأينا، على أن "العرض لا يبقى زمانين". غير أن تغير الأعراض، أعني حدوثها وزوالها، لا يحدث في نظر المتكلمين نتيجة تأثير "طبيعي". فلقد قاوموا فكرة "الطبع" و"الطبيعة" و"التأثير بالطبع" لإثبات أن الله هو الفاعل لكل شيء وأنه يخلق الأشياء خلقا مستمرا. وهذا يعني أنه عندما يخلق الله جوهرا فإنه يخلق معه في نفس الآن أيَّ عرض شاء. وبما أن الأعراض لا تبقى زمانين، فإن كل عرض يخلقه الله في ذلك الجوهر يزول ويفنى في "ثاني حال وجوده" أي في الآن التالي للآن الذي وجد فيه، فيخلق الله مكانه عرضا آخر من نوعه يزول ويفنى هو الآخر في ثاني حال وجوده، فيخلق الله عرضا ثالثا مكانه... وهكذا ما دام الله يريد اتصاف ذلك الجوهر بذلك العرض. فإذا أراد الله خلق عرض آخر في ذلك الجوهر مكان العرض الأول (البياض مكان السواد مثلا) خلقه، وإن كف الله عن خلق الأعراض في ذلك الجوهر عُدِم، لأن الجوهر بدون أعراض يفنى تلقائيا، طبقا لمبدئهم القائل: "الجواهر لا تنفك عن الأعراض". نعم يقول المعتزلة، كما أشرنا إلى ذلك قبل، إن بعض الأعراض تبقى زمانين أو أكثر، ولكن بقاءها في جميع الأحوال مرهون بإرادة الله، مثل خلقها سواء بسواء.
وواضح أن القول بالخلق المستمر بهذه الصورة يلغي السببية تماما، بل إن المتكلمين، والأشاعرة منهم خاصة، إنما أكدوا على هذا التدخل المستمر لإرادة الله على صعيد خلق الأعراض (وبالتالي الجواهر وكل شيء في العالم) لكي يسدوا الباب أمام فكرة "الطبع"، التي كان الفكر الفلسفي القديم يفسر بها التأثير الذي يفسره العلم اليوم بالسببية والحتمية. وهكذا فلما نفوا وجود "طبيعة" توجب وجود شيء أو عدم شيء، قالوا بخلق الأعراض متتابعة. قال بعضهم إذا أراد الله، أن يعدم الجوهر، فلا يخلق فيه عرضا فيعدم. وقال آخرون إذا أراد الله إفساد العالم يخلق فيه عرض الفناء لا في محل، أي مستقلا بنفسه، فيقاوم ذلك الفناء وجود العالم.
ومع أن أبا القاسم البلخي، أحد أقطاب معتزلة بغداد والمتوفى سنة 319 هـ كان يقول إن: "الأجسام التي تظهر في العالم هي مكوَّنةٌ من "الطبائع الأربع" (=الحار، اليابس، البارد، الرطب، حسب التصور العلمي القديم)، وإن الله تعالى كان قادرا على أن يحدثها لا من هذه الطبائع؛ وقال إن للأجسام طبائع بها تتهيأ أن تُفعل فيها وبها ما يفعله الحي القادر بقدرته، من ذلك أن في الحنطة (القمح) خاصية هي أنه لا يجوز أن ينبت عنها الشعير ما دامت الطبيعة والخاصية فيها، وأن نطفة الإنسان لا يجوز أن يخلق الله منها حيوانا آخر. ومع أن البلخي المعتزلي قال بالطبائع على هذا النحو فإنه لم يكن لرأيه أي صدى حتى بين أصحابه، بل لقد بقي رأيه هذا رأيا شاذا ومرفوضا في أوساط المعتزلة أنفسهم. يقول أبو رشيد النيسابوري أحد رجال المعتزلة المتوفى سنة 400 هـ وهو تلميذ للقاضي عبد الجبار، يقول في سياق اعتراضه على البلخي: "والذي يذهب إليه مشايخنا أن الطبع غير معقول، وأنه تعالى قادر على أن ينبت من الحنطة، وهي على ما هي عليه، شعيرا ويخلق من نطفة الإنسان أيَّ حيوان أراد. ولا نقول إنه يخلق الإنسان من الطبائع الأربع ولا من أصول غيرها".
ويسترسل النيسابوري في عرض "الأدلة العقلية" على أن "الطبع غير معقول"، وكان من أهم ما استدل به أن "الطبع" : إما أن يكون ذات الجوهر، أو صفة له أو معنى فيه. ولا يجوز أن يكون ذات الجوهر لأن "الجواهر كلها متجانسة، فكان يجب أن تشترك في الطبع وفي تأثيرها فيما تؤثر فيه"، وبالتالي فلا شيء يبرر أن ينفرد أي منها بـ "طبع" أو خاصية أو تأثير دون غيره. وأيضا لو كان "الطبع" من ذات الجوهر لكان الناتج عنه يحصل في كل وقت فيستمر نمو النبات مثلا بدون انقطاع إلى ما لا نهاية، ولكانت الأشياء تحمل خواص متضادة كأن يكون الشيء حلوا مُرًّا في الوقت نفسه، لأنه ليس هناك ما يجعل هذه الخاصية في الشيء أوْلى من تلك. وإذا بطل أن يكون "الطبع" من ذات الجوهر فلا يبقى إلا أن يكون التأثير من العرض لأنه "ليس ثمة في الوجود إلا الجواهر والأعراض"، ولكن بما أن بعض الأشياء لها خواص معينة، أي تحمل نوعا معينا من الأعراض ولا تحمل أنواعا أخرى، وبما أن هذه الخواص مقصورة على محلها، فالحنطة تنبت، والحجر لا ينبت، والنار تحرق، والتراب لا يحرق.. إلخ، فلا بد، إذن، أن يكون ذلك "بحسب اختيار مُختاره"، أي بحسب إرادة الله واختياره لا بحسب الطبع".
ولا يختلف موقف الأشاعرة من فكرة "الطبع"، عن موقف المعتزلة، بل إنهم قد عارضوها مثلهم وبإصرار أشد، مستعملين أدلة المعتزلة مجتهدين في تبسيطها وتطويرها. يقول الباقلاني مثلا : "إنه لو كان الإسكار والإحراق والتبريد والتسخين والشبع والري وغير ذلك مما يدعونه (=القائلون بالطبائع من الفلاسفة وغيرهم)، من الأمور الحادثة (=الموجودة)، واقعا عن طبيعة من الطبائع، كان ذلك الطبع لا يخلو أن يكون من الجسم المطبوع نفسه أو من سواه. فإن كان هو الجسم نفسه وجب أن يكون تناول سائر الأجسام يوجب حدوث الإسكار والشبع والري، ومجاورة كل جسم يوجب التبريد والتسخين، لقيام الدليل على أن الأجسام كلها من جنس واحد" باعتبار أنها تتألف من الجواهر، والجواهر متجانسة متماثلة.
القول بـ "الطبع" أو بـ "الخصائص الذاتية" للأشياء قول فاسد، إذن، من منظور الرؤية البيانية التي تؤسسها نظرية الجوهر الفرد. فكيف تفهم هذه الرؤية أنواع التأثير المشاهدة في الطبيعة؟