استراتيجية الشخصنة (1)

تمارس واشنطن لعبة مكررة لا تتغير, وهي لعبة تجسد الشخصية الأمريكية وولعها الشديد بتسيير الحرب والدعاية في وقت واحد. تلك هي لعبة تحويل القضايا السياسية إلى المنحى السينمائي الذي يجعل الخصم أو العدو رمزا للشر وبؤرة للإرهاب, ولذلك يجب على الجميع التخلص منه فورا.
بمقتضى هذه اللعبة يجري اختيار المعارض للمصالح الأمريكية ويتم تسليمه لخبراء التشويه الإعلامي ليرسموا له صورة شيطانية يجري ترويجها عبر مؤسسات الخدمات الإعلامية الأمريكية المتعددة. وبعد فترة زمنية يجد المحايدون أنفسهم وهم يشيرون إلى تلك الشخصية باعتبارها محور الجريمة وأساس التخويف وزعيمة الإرهاب, بحيث تصبح الحياة صعبة في وجودها ولا بد من اجتثاثها.
وحتى لا نتهم رئيسا ضعيفا مثل بوش بأنه مبتكر اللعبة عندما أعلن عن كوريا الشمالية وإيران وسورية وحزب الله باعتبارها محور الشر, ننعش الذاكرة ببعض النماذج السابقة التي تمت في عهد أسلافه حينما جسدوا كل كراهيتهم وأحقادهم ضد خصومهم بالطريقة نفسها.
لقد بدأت اللعبة منذ استولى الأمريكيون على أراضيهم من الهنود الحمر, وكان الأسلوب المتبع هو مهادنة قبيلة خائفة وإقناعها بأن زعيم القبيلة الأخرى ـ المنافسة عادة ـ رجل شرير لا بد من قتله. وهكذا قتل كوشيز وجيرنمو وأعداد هائلة من هؤلاء ثم تم قتل قطعان الجاموس التي كانوا يقتاتون عليها باعتبار الجاموس حيوانا شريرا, ونجحت اللعبة بامتياز. بعد ذلك مارست واشنطن هذه اللعبة في ساحتها الخلفية في أمريكا الوسطى حيث دول جواتيمالا ونيكاراجوا وهندوراس والسلفادور وبليز وبنما وتوجهت جنوبا إلى كولومبيا ثم دول أمريكا اللاتينية كافة. ويحدد الأمريكيون اتجاهات الساسة, فمن يخدم المصالح الأمريكية وينفذ تعليمات واشنطن يبقى متربعا, ومن يعاند ويقاوم أو يشارك في السلب فهو في حكم الميت, لأن السيناريو الأوحد هو استهدافه علنا وسرا, فإما يتم اغتياله وإما التحريض عليه.
وحتى لا تأخذنا الأمثلة نكتفي بالقليل ونذكر القارئ بسالفادور اللنيدي الذي قتل عام 1973 في عهد نيكسون وقبله كان جيفارا الذي أصبح رمزا للرفض اليساري للهيمنة الأمريكية وتم قتله في أحراش بوليفيا, بعدما عزل الساسة الأمريكيون عنه صفة السياسة والمعارضة وركزوا على أنه إرهابي ضد البشر وفشلوا مع كاسترو لأنه ينعم بتأييد شعبه رغم تعرضه لأعتى أنواع الدعاية الأمريكية المضادة, ومازال كاسترو وشافيز في فنزويلا رمزين للشر المستطير الذي يهدد "ملائكة" واشنطن. وكان سوكارنو في إندونيسيا رمزا للشر في أكبر أرخبيل في العالم وتم التعامل معه بالطريقة نفسها حتى امتطى سوهارتو حصان السلطة, وحدث الشيء نفسه مع لومومبا اليساري الذي وقفت واشنطن وراء بلجيكا وهم يقتلون المثقف الشاب على أيدي الثلاثي الذي عبر عنه المطرب الشعبي محمد طه عندما غنى:
تشومبي ويا كازافوبو ومعاهم موبوتو
فضلوا ورا لومومبا لما حققوا موتو
وكان يجلس بجواري في الحفل وفد كونغولي يتبع رئيس الوزراء تشومبي, الذي سجنه بومدين في الجزائر ومات في السجن, ولما سألني أحدهم ماذا يقول هذا المغني أو المطرب؟ قلت له: إنه يحيي ضيوفه من الكونغو.
واستمر مسلسل قتل "الأشرار" فقتل المسلمان أبو بكر تيفاوا باليوا وأحمدو بيللو في نيجيريا ليحل محلهما أبرونسي الأمريكي التوجه وعندما عاجل يعقوب جوون أيرونزي بضربة قاضية وقعت الحرب الأهلية النيجيرية عام 1967 وظل أوجوكو زعيم الإيبو يحارب لإسقاط جوون لكنه فشل.
وفي الأزمة البلقانية شخصنت واشنطن الصراع وركزت في شخص ميلوسوفيتش مع أن سفاحي البوسنة كانوا بالمئات وهم الآن يرتعون ويمرحون ويحصلون على الجنسية الأمريكية. وعندما بالغ الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديجول في الاستهزاء بالأمريكيين نظموا له مظاهرات عارمة وحرصوا على التأكيد أن زعماءها من الشيوعيين "إيديت" ولكن وقوف ديجول ضد محاولة أمريكا للسيطرة على أوروبا كانت السبب في التركيز على إبعاده, وهو ما حدث بعد المظاهرات. أما بريطانيا فقد فهمت لعبة تغير القوى والعصور وقبلت أن ترتدي اللجام الأمريكي حتى الآن. وتضم القائمة الرئيس اليوناني بابادوبولوس والد جورج بابادوبولوس وعندما رفض الرجل مبدأ القواعد في الجزر اليونانية المتعددة, بدأ الحديث عن ظهور غول في المنطقة الهلينية لا بد من كبح جماحه.
وهناك محاولات مستميتة لإثارة النعرات الدينية وإيقاظ صراعات عفا عليها الزمن بين السنة والشيعة ليتكفل المسلمون بضرب بعضهم بعضا وليأمن جنود أمريكا العنف والإرهاب بعدما تحقق لهم من سرقات النفط وغيره. وهناك حديث عن خطة إعادة انتشار تترك أمريكا المدن والقرى وتتوجه لحراسة الغنيمة التي جاءوا من أجلها.
والمنهاج الذي تتبعه واشنطن بانتظام لتحقيق ذلك يتمثل أولا في البحث والتنقيب في تاريخ حياة الرجل, وبعد التنقيب يأتي دور التجميع ثم الصياغة في إطار ادعاءات واتهامات صارخة. وإذا لم يوجد ما يشين هذا العدو بدأت أبواب الكذب المنظم تتصاعد, ومع وجود الآلاف ممن يصرفون رواتب شهرية ومكافآت شاملة من وكالة الخدمات الإعلامية usis فالمسألة لا تعدو كتابة أي سيناريو مهما تضمن من افتراءات ومن دأب المسؤول الأمريكي أنه يكره أن يبقى عميله الإعلامي بدون عمل فيسأله هل هناك أشياء محددة؟ فإذا جاءت الإجابة بلا كانت التعليمات إذن اعمل في تحقيق التأثير التراكمي, أي إضافة أخبار سلبية صغيرة بصفة منتظمة وليس من المهم الصدق هنا. فمن لديه الوقت أو الرغبة أو القدرة على التحقيق في هذا الخضم المزدحم؟
وتلجأ واشنطن إلى سياسة التجريم والمطاردة الإعلامية إذا كانت بصدد تمرير أمر عليه خلاف محلي كبير ومع حسابات الانتخابات ومصالح الشركات التي تدعم الأحزاب والساسة يتطلب الأمر التدخل لشغل الرأي العام حتى يتم التمرير بسلام. وهنا تتحقق لكل طرف متطلباته, فالمواطن العادي يشعر أنه صاحب رأي في حين أن رأيه تكون بناء على معطيات مزيفة ومدروسة بعناية ولا ننسى سيكولوجية الأمريكي الذي يؤمن بأنه صاحب حلم عظيم وصاحب إرث كبير في المغامرة التي ربما تنتهي بالفشل أحيانا ولكن ذلك لا يفت في عضده ولا يثنيه عن الاستمرار لأن شعاره منذ الرواد هو كن جريئا واثقا وأقدم على مشروعك, فإذا فشلت فإن الفشل يفيد في الخبرة ويقوي صاحبه, ولذلك ليست هناك أي مشكلات للكذب وقصص ووترجيت وكلينتون مع المتدربة الجميلة وعشرات الفضائح تثبت أن الأمريكيين شعب متسامح لا بأس إن كذبت عليه فهو سيصفح حتما والأمريكي الذي نعرفه في أدبيات السياسة لا يشعر بالعار لأنه كذاب أو جاهل وقد اكتشفت أن أستاذا أمريكيا في العلوم السياسية يعتقد أن كينيا دولة مجاورة لكوريا ولم يظهر على وجهه أي شعور بالخجل عندما صححت له وقال بهدوء is it so? هل هي كذلك؟
ونقطة مهمة تهدف إليها شخصنة الصراع والأعداء وهي حرص واشنطن على تخويف الدول الصغرى بل وما كان يطلق عليها الكبرى إلى وقت قريب, فعندما تعلن أن فلانا ينتمي لعائلة الشياطين فإن أحدا من الملائكة الحرصاء على درء غضب واشنطن لن يستضيفه على أرضه, ولا ننسى للملك فاروق, يرحمه الله, أنه منع الإنجليز من التعرض لأي من الرعايا الإيطاليين في مصر رغم أن إيطاليا وبريطانيا كانتا في حالة حرب. وممارسة هذا التخويف تكسب واشنطن ولايات جديدة, وإذ ليس المطلوب أن تستعمر الدولة بالجيوش لتذعن لك, وقد كان للدولة العثمانية أيام مجدها في القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر 17 قطرا تابعا للسيادة ومنها بلغاريا وأوكرانيا وجورجيا ورومانيا الحالية والمجر وصربيا والتتار ومعظم دويلات القوقاز, دون أن يدخل جندي عثماني وبنظرة بانورامية حول العالم نجد أنه باستثناء فنزويلا وإيران وكوريا الشمالية وكوبا يصعب على أي بلد قبول مجرد طلب اللجوء لمن لا تريد واشنطن منحه هذا الحق وفي المقال التالي نطبق الحالة على رغد صدام حسين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي