تزوج إسماعيل عليه السلام عدة مرات من جرهم الذين ساكنهم مع أمه في مكة حول بئر زمزم، كما هو معروف آخرها زواجه الميمون من ابنة مضاض بن عمرو كبير جرهم وسيدهم ورزق منها 12 ولدا أحدهم اسمه قيدار ومن أحفاده عدنان الجد الـ 21 من سلسلة النسب النبوي، ولو لم يعرف مضاض هذا مكانة ونقاء نسب إسماعيل بن إبراهيم وأنه سليل الأنبياء والملوك لم يكن ليتورط بمصاهرته أصلا خصوصا في ذلك الزمن الذي كان فيه النسب يلعب الدور الأكبر في تحديد الالتقاء الطبيعي في الزواج والاختلاط العرفي المبني على أسس ومفاهيم متعارف عليها بالضرورة، وكون إسماعيل لا يعد عربي الأرومة لا يعني بالضرورة وضاعة نسبه، فجرهم كانت تعلم علم اليقين أنه ابن لإبراهيم الخليل أشوري النسب ذلك النبي الذي اختاره الله وفضله على خلقه وبلغت دعوته أصقاع الأرض، وكون إسماعيل ابنا لهاجر التي كانت جارية لسارة ثم تسرت لإبراهيم لا يعني كذلك وضاعة نسبها المعروف وأنها من سلالة ملوك، مثلها كمثل يوسف عليه السلام الذي لم يكن ليضره أن بيع بدراهم معدودة وبخس ثمنه، ثم لما عرف نسبه الرفيع معدنه الطيب ارتقى به ذلك وولي خزائن الأرض، وكيف لا وهو ابن يعقوب عليه السلام، ومع فائق احترامي للناقد الكبير والكاتب الفذ أستاذنا الدكتور عبد الله بن محمد الغذامي وما ذهبه إليه في مقال رائع له في جريدة "الرياض" العدد 14213 – 1428هـ تحت مسمى (القبيلة.. المجتمع "الزواج"): من أن إسماعيل ابن جارية وجاء إلى جرهم ليصاهرهم وفي العرف الثقافي فإن جرهم العربية سترفض تزويج غير عربي وابن جارية ولكنهم مع ذلك زوجوه وجاء من هذا الزواج فضل كبير ونتج عنه تحول من أشد التحولات في تاريخ الثقافة، وماذا لو أن جرهم تمسكوا بالقانون النسقي ورفضوا إسماعيل زوجا لإحدى بناتهم أو.. إلى آخر كلامه... صحيح أننا لا نؤيد العصبية القبلية أو الشعوبية خصوصا في رباط الزواج الوثيق عملا بقول الرسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير"، وكلنا يعرف قصة زينب بنت جحش ابنة عمة الرسول صلى الله عليه وسلم رفيعة النسب عندما زوجها النبي لمولاه زيد بن حارثة (الذي عرف نسبه فيما بعد) وعندما طلقها زيد تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وقد استشهد بذلك الغذامي أيضا في سياق كلامه، إلا أنه كما قال ابن خلدون أن الصفاء التام لا يكون إلا بالتوحش التام، والصفاء التام يقصد به الانغلاق القبلي وعدم الاختلاط بالغير، ويقصد بالتوحش التام أي البعد عن التحضر والمدنية، وجرهم رغم انتقالهم من بلادهم إلا أنهم فضلوا ذلك الوادي الموحش والتفوا حول إسماعيل وأمه حول بئر زمزم في انغلاق دام عشرات السنين لو لا أن قيض الله إبراهيم عليه السلام وكسر وتيرته ببناء البيت العتيق، ودعا الناس للحج إليها وهذا هو حقا أشد التحولات في تاريخ الثقافة ، وهذا ليس بصحيح كون قبيلة قريش وهي قبيلة الرسول صلى الله عليه وسلم برمتها تمتعت بالسيادة والرفادة والسقاية وعلو المنزلة فوق قبائل العرب كافة حتى قبل الرسالة.
عبد العزيز محمد العريفي
