دكا في قلب الرياض

دكا في قلب الرياض

لمن لم يتسن له زيارة دكا، ليذهب إلى وسط العاصمة السعودية الرياض وتحديدا في أحد أجزاء حي البطحاء الشهير، حيث سيكون وسط بقعة جغرافية حولت منها العمالة البنجالية مجسما صغيرا لعاصمتهم دكا، بدءا من شكل الأزقة التي تفصل بين بيوت ومحال الحي، مرورا بالمحال التي تبيع كل السلع التي لا توجد إلا في دكا وهذا الحي! وانتهاء بالجو المختلط برائحة الطعام ذي النسبة العالية من التوابل الهندية والزيوت المختلفة.
وكما هو الحي الصيني في نيويورك الأمريكية، أو الحي العربي في العاصمة الفرنسية باريس، ينطبق الحال على العواصم الكبيرة ذات الكثافة السكانية والقدرة الاقتصادية المستقطبة للأفراد من الجنسيات كافة، تنشأ أحياء تتشكل على أساس الجنسيات أو الأعراق، وفي الرياض فإن أول هذه الأحياء تشكلا كان للجنسية الأكبر تواجدا في العاصمة وهي البنجالية، إذ تشير الأرقام الرسمية إلى أن السعودية أكبر مستورد للعمالة البنجالية في العالم بواقع مليون ونصف المليون عامل يعملون نظاميا في البلاد، وحجم هذه العمالة الفعلي يتجاوز هذا الرقم الذي يخص النظاميين منهم.

الطابع الثقافي والاجتماعي

يحرص عدد كبير من العمالة البنجالية على الذهاب إلى هذا الحي يومي الخميس والجمعة لشراء سلعهم الخاصة، أو الالتقاء حيث إجازة الغالبية العظمى منهم، وبغض النظر عن عددهم الكبير فإن هذين اليومين تشهد تجمعا يتجاوز عددهم عشرة آلاف، في هذه البقعة التي لا تزيد مساحتها على ألفي متر مربع في قلب حي البطحاء، يتبضع أحدهم ويبيع الآخر، ويتجول ثالث مع أصحابه في جو يغلب عليه البيع والشراء، وتعود تسمية السوق إلى هذا الاسم كونه يحمل أكثر من طابع يدل على الاسم، بيئيا، اجتماعيا، وثقافيا.. كلها تؤدي إلى التشابه الكبير بين الموجود في الحي يؤدي إلى كونك في عاصمة بنجلاديش (دكا) ولا علاقة له بالطابع الثقافي أو الاجتماعي للمدينة التي يوجد فيها الحي (الرياض)، فمحالها ومراكزها ومطاعمها متركزة على القيم والعادات الغذائية الخاصة بالبنجاليين.

عندما تتحول الغربة إلى وطن

لا يلبث الداخل إلى السوق في الحي البنجالي أن يداعب شهوة الفضول في داخله بالبحث والسؤال عما يراه من حوله، حتى تأخذه شهوته الجامحة إلى منعطف آخر لم يتوقع أن يراه يوما ما، وإلا فما تفسير أن يتحول مرتدو الثوب والشماغ إلى مجرد زائر غريب لمنطقة يرتدي سكانها القمصان والبناطيل، وتحول سحنتهم ولكنتهم وتعدد العادات المنتشرة في محيطهم إلى واقع آخر تمتزج الغرابة فيه بالتساؤل.
استفسار خفي يتنامى في الأعماق عندما يرمقك أبناء الجالية الذكية بنظراتهم المريبة التي تتوجس منها خيفة، فهي تحمل ملامح الحزن والشقاء بينما تمرر رسائل مشفرة، لمن يعيها بحقيقة ما تخفيه تلك النظرات البائسة من معان غريبة قد تخفي الجرم والفضيلة في آن، نعم فهذا العامل البنغالي لم يترك بلده إلا بعد تخطيط مسبق لما سيفعله في ""Saudi arabia.
لوحات المحال التجارية ونوع المعروضات من السلع كلها تنم عن تصور أبناء الجالية لطبيعة المكان الذي يقطنون فيه، فهم تركوا دكا وراءهم، ولكنهم في المقابل كونوا دكا جديدة بأسلوبهم، فتراهم يتجمعون أمام المحال على طاولة واحدة منهم من يبيع ومنهم من يشتري، ومنهم من يجتر الأسى بمشاكله مع "الكوفيل".

نفايات وروائح كريهة

أن تنقل الصورة المثلى عن بلدك وبيئتك الأساسية مطلب، ولكن أن تتعمد الصورة المعاكسة فهذا السوء بعينه، وهذا ما رصدناه خلال تجولنا في الحي البنغالي، فإن قدر للشخص أن يدخل هذه السوق، فإن أول ما سيقابله روائح كريهة من هنا وهناك، مصدرها النفايات والقاذورات الملقاة على الأرض، فترى الطريق مليئا بشتى أنواع الأوراق الخضراء التي تجهل ماهيتها، فضلا عن أسباب وجودها وفي ماذا تستخدم، ويعج المكان ببقايا الطعام والخضراوات والفواكه، وتتجمع عليها الحشرات ليتحول المكان بأكمله إلى بيئة خصبة لنقل الأمراض وانتشارها في المحيط الواسع.
إن المتأمل في المشهد يجد صعوبة بالغة في وصف المأساة التي قد يسببها هذه التجمع غير المرتب، والسلبيات التي قد تنجم عنه، إن كانت صحية أو اجتماعية أو أمنية، لأن مفهوم النظافة يشمل الشكل والجوهر، والسلوك خير مترجم للجانبين، فأي منحى جمالي لأبناء الجالية البنجالية، يمكننا أن نتحدث عنه بعد ما رأيناه من أساليب وسلوكيات خاطئة على المستويين الشخصي والعام.

انعدام الرقابة على المحال التموينية

لا شك أن الرقابة الدقيقة لطبيعة المواد التموينية التي تباع في محال البنغاليين، أمر بالغ الأهمية، كونها الرادع الأساس لأي تلاعب أو تحايل على الأنظمة قد يتم من خلاله تسويق مواد ضارة صحيا أو أخرى محرمة، إلا أنه وللأسف الشديد يلاحظ الغياب الكلي لمثل تلك الرقابة، التي نتحدث عنها وإن وجدت من حين إلى آخر فتظل بسيطة جدا في إجراءاتها ولا تؤدي إلى الهدف المنشود.
وما إن تدخل أحد المحال التموينية، حتى تندهش مما تراه، فمحل "البقالة" يتحول إلى صيدلية، من خلال المستحضرات الطبية الغريبة التي يعج بها، وكلها صناعة بنغالية خالصة، إضافة إلى بعض المستحضرات والأدوات التجميلية الأخرى.

وعند سؤالنا للبائع "البنغالي طبعا" عن ماهية هذه البضاعة، أجاب بأنها بودرة لتنظيف وتلميع الأسنان، فانتقلنا إلى الجانب الآخر من أرفف المحل وسألناه عن بعض المستحضرات، فأجاب بأنها منشطات جنسية ومقوية للرجال والنساء على حد سواء.

مكاتب مشبوهة لإنجاز المعاملات

وفي الطريق إلى السوق الرئيسية في الحي المكتظ بالحركة ليلا ونهارا إلى الدرجة التي توحي إليك أن هذا الحي لا ينام، تصادفك ممرات تؤدي إلى مكاتب متفرقة الأغراض، منها ما هو لإنجاز المعاملات المتعلقة بأبناء الجالية في البلاد، ويعطي انحصارها في تلك المواقع المتوارية عن الأنظار مؤشرا على عدم نظاميتها، ناهيك عن عمليات التزوير للوثائق التي قد تمارس فيها، الأمر الذي يضيف تساؤلا آخر إلى ما في الجعبة من تساؤلات حول الآلية التي يفترض بالجهات الرسمية اتباعها، تفاديا لمثل تلك الشبه الخطيرة أمنيا، وحول القائمين عليها والمساهمين في انتشارها بذلك الشكل المريب، وهل هناك من يتواطأ مع البنغاليين لدعم تلك المكاتب غير النظامية، وعمليات التزوير، التي قد تمارس فيها تحت غطاء قانوني مع أفراد من خارج البلاد لهم جذورهم داخل الحي البنغالي؟ حتما هناك إجابة واحدة ستتحقق حينما يكون المواطن نفسه الحائل دون وقوع تلك الشُبَه.

"التمبل" بديلا عن السجائر

ينتشر في الحي البنجالي ما يعرف بأوراق التمبل أو التبغ المضغي، حيث توضع مادة التبغ أو التمباك داخل ورقة خضراء كبيرة وتخلط معها مادة تشبه الكريم الأبيض، وتلف بشكل متساو، ليقوم بعدها البنجالي بمضغها، يشبه افتراس الأنعام لحشائش العشب الأخضر، ثم يقذف بمحتوى فمه المنتفخ في الطريق، سألنا أحد مستخدمي التمبل: "ما الذي تستفيدونه من ذلك، وما هي المتعة التي تجدونها بهذا التصرف"، فأجاب أن أغلبهم مدمنون على هذه المادة، وهي مشابهة للتبغ وبديل جيد عن التدخين الذي لا يستطيع أن يشتريه، فسعرها الرخيص يفرض عليه استخدامها كبديل للسجائر.
وفي منتصف الطريق المؤدية إلى السوق هناك من العمالة البنغالية من عمد على وضع أكشاك على جانبيه يبيعون فيها الدخان، والتمباك، والحشيش، ومادة التمبل الممنوعة لزبائنهم من مختلف الجنسيات، آمنين العقوبة ومتخذين وسائل وطرقا للمراوغة في حال انكشف أمرهم.

إعلانات حائطية

العمالة البنجالية حولت الممرات وواجهات المحلات وجدرانها داخل الحي إلى لوحات إعلانية لمن فقد منهم إقامته أو أي من أوراقه الثبوتية، فهذه تعد مخالفة لنظام إدارة الجوازات الذي يحتم على كل مقيم فقد إقامته الإعلان في إحدى الصحف المحلية في البلاد حتى لا يتعرض للعقوبة، وتقع إقامته في أيدي العابثين والمستغلين لها دون ما يثبت أنها مفقودة، فهم يعملون على وضع أرقام هواتفهم في الورقة المعلقة على الجدار مكتوب عليها باللغة العربية وبالبنجالية من يعثر على إقامة مفقودة يرجى الاتصال على رقم جوال معين، وفي هذا خرق واضح للأنظمة المعمول بها في المملكة، لأن عدم إبلاغ الجهات الرسمية بذلك يفضي إلى عواقب وخيمة، فقد يظل العامل فاقدا لهويته أو أوراقه الثبوتية لفترة طويلة، يتنقل خلالها دونما دليل رسمي على نظامية إقامته، مما يعرضه وكفيله إلى مساءلات قانونية، تصل حد الغرامات المالية أو الإبعاد عن البلاد في أحيان كثيرة

مطاعم شعبية ومحال بأسماء سعوديين

وفي إحدى زوايا السوق ترى مطعما لجميع المأكولات البنجالية، فترى أجسادهم ملتفة وأعينهم شاخصة على شاشات التلفزة التي تبث برامجها المنوعة وأفلامها بلغتهم وأمامهم أواني من المرق والسيرة والجباتي والتي تعد من أشهر الأكلات الشعبية في بنجلادش، إلا أن انعدام النظافة كما سبق وذكرنا يظل الإشكالية الأولى في تعامل المطاعم البنغالية مع زبائنها من أبناء الجالية، وانعدام الرقابة هو الآخر يعمق حدة المشكلة.
خالفت المحال مسمياتها من الخارج لنشاطها في الداخل فتجد مكتبة حولت إلى محل للكماليات والعطور، فيما تعود ملكية معظم هذه المحال إلى العمالة إياها, والسعوديون لا يبقى لهم منها إلا الاسم.

الأكثر قراءة