كيف ندحر الاحتيال والتلاعب والفساد في سوقنا؟!
لم يسبق أن شهدتْ سوقنا المالية حالةً من ارتفاع حمّى المضاربات كما شهدتها خلال الفترة حزيران (يونيو) 2006 – حزيران (يونيو) 2007، صعدتْ في رحلةٍ مكوكية من حدود 40 في المائة في مستهل الفترة، إلى أن اجتازت نسبة 74 في المائة! ولتتأكد لدينا تلك الحقيقة المروعة؛ أكتفي بالإشارة إلى أمرين يوضحان وعورة الطريق الذي سلكته سوقنا خلال تلك الفترة. ولكن قبل التطرّق إلى هذين الأمرين، كيف لنا أن نقيس نسبة المضاربات في السوق؟! يتم ذلك بعدّة طرق من أبرزها طريقتان؛ الأولى: استخراج قيمة التعاملات "اليومية، الأسبوعية، الشهرية، السنوية" المتركزة على شركات المضاربة التقليدية "شركات عدد أسهمها قليل جداً، وأغلبها خاسرة"، ومن ثم نسبة تلك القيمة إلى إجمالي قيمة تعاملات السوق. الطريقة الثانية: القيام بالمعادلة المحاسبية أعلاه نفسها، ولكن على عدد الأسهم المتداولة. ورغم أنني أعتمد على كلتا المعادلتين في التعرّف على قراءة سلوكيات السوق، والتعرّف أيضاً على السمات الأساسية لقرارات المتعاملين في السوق، إلا أن الطريقة الأولى هي الأكثر وضوحاً بالنسبة لي، كونها تكشف بصورةٍ أدق عن الحجم الحقيقي للأموال المدارة في أروقة السوق بهدف المضاربة فقط! والآن ما الأمران الذان يجعلان من هذه الفترة الزمنية من عمر السوق المحلية في غاية الغرابة؟! الأمر الأول: إن السقف الأعلى لتلك المضاربات لم يجتز في أي مرحلةٍ زمنية سبقتها نسبة 40 في المائة! الثاني: إن الحجم الرأسمالي لتلك الشركات الصغيرة "المضاربية" لا يتجاوز سقفه 9 في المائة! ولو تم استبعاد أثر التضخم في أسعارها لما تجاوزت 4 إلى 5 في المائة من القيمة الرأسمالية للسوق، وهو أثر ليس بالهيّن قياساً على أن بعض أسعار أسهم تلك الشركات قفز خلال تلك الفترة في أقل من شهرين بأكثر من 1000 في المائة!!
ماذا تقول لنا الأرقام والنسب المئوية أعلاه؟! إنها تقول بعبارةٍ صريحة إن الكعب الأعلى في سوقنا المالية للمضاربات المحمومة دون منازع! وماذا يعني ذلك أيضاً؟! إنه يعني بعبارةٍ أكثر صراحةً أن أغلب تعاملات السوق - حسب النسب المئوية الموضحة أعلاه - مكتظّةٌ إلى ما فوق حدود الإشباع بالاحتيال والمخالفات، التي نصّت عليها المادة التاسعة والأربعون والمادة الخمسون من نظام السوق المالية؛ بدءاً من الفقرة "أ" القائلة حرفياً "يُعد مخالفاً لأحكام هذا النظام أي شخص يقوم عمداً بعمل أو يشارك في أي إجراء يوجد انطباعاً غير صحيح أو مضللاً بشأن السوق، أو الأسعار، أو قيمة أي ورقة مالية، بقصد إيجاد ذلك الانطباع، أو لحث الآخرين على الشراء أو البيع أو الاكتتاب في تلك الورقة، أو الإحجام عن ذلك، أو لحثّهم على ممارسة أي حقوق تمنحها هذه الورقة، أو الإحجام عن ممارستها" إلى آخر فقرةٍ في المادة الخمسين. وحسبما أكّدته المادة السابعة والخمسون من النظام، فإن "أ" أي شخص يخالف المادة التاسعة والأربعين من هذا النظام، أو أياً من اللوائح أو القواعد التي تصدرها الهيئة بناء على تلك المادة، وذلك بالتصرف أو إجراء صفقة للتلاعب في سعر ورقة مالية على نحو متعمد، أو يشترك في ذلك التصرف أو الإجراء، أو يكون مسؤولاً عن شخص آخر قام بذلك، يكون مسؤولاً عن تعويض أي شخص يشتري أو يبيع الورقة المالية التي تأثر سعرها سلباً بصورة بالغة نتيجة لهذا التلاعب، وذلك بالقدر الذي تأثر به سعر شراء أو بيع الورقة المالية من جراء تصرف ذلك الشخص. "ب" تُقدر التعويضات المستحقة على أي شخص مدعى عليه بموجب هذه المادة، والحقوق المتعلقة بالتعويض وتوزيع مبالغه على المسؤولين عنه بطريقة تتفق مع الأحكام المنصوص عليها في الفقرة "هـ" من المادة الخامسة والخمسين من هذا النظام. "ج" بالإضافة إلى الغرامات والتعويضات المالية المنصوص عليها في هذا النظام يجوز للجنة بناءً على دعوى مقامة من الهيئة، معاقبة من يخالف المادتين التاسعة والأربعين، والخمسين من هذا النظام بالسجن لمدة لا تزيد على خمس سنوات.
أمام هاتين الحقيقتين الأكثر جلاءً والمتمثلتين أولاً: في النص الواضح للنظام. وثانياً: المؤشرات الرقمية الواضحة المستخرجة من رحم السوق، بما ينبئ صراحةً عن مخالفة نص ذلك النظام! ألسنا أمام مفارقة كبرى؟! فحواها أن السوق المحلية شهدتْ مثل تلك التشوهات السلوكية الخارقة مع سبق الإصرار والترصّد لمواد النظام واللوائح التنفيذية! إنها مفارقاتٌ وليست واحدة فقط، تفتح الأبواب على مصارعها أمام الكثير من التساؤلات المشروعة، حول الأسباب الحقيقية الكامنة وراء استشراء حُمّى المضاربات بهذه الصورة المفزعة والمروعة في سوقنا المحلية، وما نخشى جميعاً من استمرار نشوب مخالبه في جسدي السوق المحلية والاقتصاد الوطني. بناءً على ما اتضحت لدينا صورته الحقيقية أعلاه؛ لا أخالنا جميعاً نختلف على أن ليس هناك ما يفوق حاجة السوق المحلية إلى فرض ثقافة النظام والقانون، كأكثر الحاجات والمتطلبات إلحاحاً! وما ذلك إلا لأجل استعادة عدالة المعاملات في السوق، وإرساء ركائز النزاهة فيها، ومن ثم القضاء التام والصارم على أي حالاتٍ محتملة للفساد والتلاعب والتدليس. بالتأكيد؛ أن كل ذلك كفيلٌ بإعادة الاستقرار إلى ربوع السوق المحلية، وكفيلٌ أيضاً بإعادة ثقة المستثمرين، وامتداده إلى مناطق أبعد تُكسب السوق والاقتصاد فرصاً أكثر جدوى، وثقةً أكبر من مستثمرين جدد محلياً وخارجياً.