ليس منا من لم يجتمع بكذاب، أو نصب عليه محتال.
والكذابون أنواع؛ فمنهم اللطيف، ومنهم السمي، ومنهم من هو مدرسة في الكذب، واجتمعت أنا بواحد منهم؛ فلم أكشفه إلا بعد حين. وإذا سمعت يوما أنه أصبح رهين الحبس فلن أتعجب، ولكن أصنافا من هذا النوع دهاة، ولا يقعون بسهولة في يد العدالة، وهم محتاطون جدا متلونون للغاية، وفي العادة يسيئون استخدام الثقة، فإذا أفلست؛ فتحوا بنوكا جديدة، من عقول أناس جدد، مغفلين أو طيبين، حتى ينكشف أمرهم، وقد يطول عقودا، وبين هذا وذاك يكونوا قد ملأوا الجيوب وفروا، كما جاء في قصة (عمال البحر) لفيكتور هوجو، الذي حبس كذبه 30 سنة.
وكل مرض له علاج إلا الكذب، وهو يقترب من الكفر، وإنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله.
وفي الحديث أن المؤمن قد يزني ويسرق ولكن لا يكذب.
وفي الآية اتقوا الله وكونوا مع الصادقين.
وسبب أهمية الصدق، أن من يزني أو يسرق، إن سألته اعترف؛ فيمكن أن تصلح غلطته بانكشافها، فإذا كذب لم يعد ممكنا كشف أي موبقة.
ولذا كان الكذب مفتاح كل خطيئة، والصدق رأس كل فضيلة، وهي أول نصيحة وتدريب يعطى للطفل أن الصدق أنجى.
والكذب من جهة، يشبه الجهاز الذي إذا جرب أعطاك نتائج خاطئة؛ فترميه أخيرا ولا تعتمده، وكذلك معشر الكذابين.
وجرت العادة أن هناك قانونا للكذب: (أنك قد تكذب على كل الناس بعض الوقت، أو على بعض الناس كل الوقت، ولكن الكذاب لا يستطيع أن يكذب على كل الناس كل الوقت).
مع هذا فقد يبقى الكذاب بين قوم محدودين طول العمر، وهو كذاب بدون معرفة أمره، وفق هذا القانون.
وبقدر احتكاك الكذاب بأناس شتى، خاصة الواعين منهم، بقدر انفضاح أمره، ولذا فهو يحرص، أن يلعب بأوراقه، إلى آخر لحظة، على قوم وثقوا به.
وفي القرآن أن هناك طائفة من المنافقين مردوا على النفاق، ويصف القرآن لنبيه أنه لا يعرفهم "لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم".
والكذب ضعف، والصراحة والصدق مواجهة وقوة، ولكن المجاملة لا بد منها ونصفها كذب.
ومعظمنا يكذب في اليوم الواحد أكثر من كذبة بيضاء وهي سوداء، بغير قصد من الانتفاخ والمبالغة وحب لفت النظر.
ويروى عن جحا أنه كان يبالغ في كلامه، فنبهه زميله إلى ذلك؛ فقال: إن بالغت سعلت أنا أو تنحنحت فانتبهت أنت فعدت إلى الحقيقة.
حتى كان يوما ضمهم مجلس، فقال جحا: لقد بنيت مسجدا؟ قالوا له: خيرا ما فعلت.
قال أما طوله فهو عشرين كيلومترا، فتعجب القوم، وقالوا إنه طويل جدا؟!
فسعل صديقه سعالا شديدا كاد أن يختنق منه، فتنبه جحا وقال: أما عرضه؟؟ وهنا أنصت القوم باهتمام، قال: فكان مترا؟! فتعجب القوم أكثر، وقالوا: لقد أصبح ضيقا جدا، وهو أقرب للممر منه إلى مسجد؟ فالتفت جحا إلى صديقه وقال: الله يضيَّق على من ضيق علي؟
وأظهرت قناة الديسكفري، أن رؤساء الدول، هم من أكثر خلق الله كذبا، وخالفهم في هذا (ساركوزي) الرئيس الفرنسي الجديد، الذي صارح بكراهيته للأتراك والمسلمين وقد يغير ولا غرابة؛ فيجب ألا نثق بسياسي.
والعسكري الذي ينجح في انقلاب يصبح بطلا يصفق له الناس، ومن يفشل يصبح خائنا يجب إعدامه، فهذه عملة السياسة من الخيانة والكذب.
وهكذا فالكذب مرض، ومن ابتلي به يجب الحذر منه، والنظر إليه كمريض مصاب بالجذام وله علاج، ومعالجة الكذب عند الطفل مهمة أكثر من التبول اللاإرادي، فإذا استولى على صاحبه أصبح مرضا مثل السرطان، ويزين لصاحبه ارتكاب كل موبقة أنها شطارة. ألا ساء ما يعلمون.
وأنا شخصيا اجتمعت بالعديد من الكذابين، ولكن أخطر الأنواع التي اجتمعت بها، رجل حلو اللسان، داهية التفكير، يبتلع أقرب الأصدقاء مثل أفعى الأناكوندا، وكان يكذب بتخطيط، وهدوء بال، ومتعة، وطول باع، ومران طويل، وكنت أتعجب من كثرة قصصه، وفي يوم قلت له: قد أنضم أنا إلى الانسكلوبيديا عندك، وهذا الذي حصل، فقد افترقت طرقنا بعد أن انكشف أمره، ولكن ليس بدون أذية وألم؟
وأظنه الآن يكذب على آخرين، وهكذا دواليك، فتكبر موسوعة الكذب عنده وتنتفخ باستمرار.
ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
ومن صدق وصدق بالحق إذا جاءه فاولئك هم المفلحون.