على ضِفَافِ شارع الملك فيصل يرحمه الله (الوزير سابقاً) من جهة الغرب يرتكز معلمٌ رئيسٌ لمدينة الرياض، يبدو من الطائرة وكأنَّه مسمارٌ من الصُّلبِ قد ثُبِّتَ في الأرض، ويقع عنه من جهة الجنوب قصرٌ كان مسكناً لإحدى كريمات المؤسِّسِ الملك عبد العزيز يرحمه الله، تَحَوَّلَ إلى مقرٍ لديوان مجلس الوزراء حقبةً من الزمن، ثم صار جزؤه الغربي مقراً لمحكمة التمييز، وجزؤه الشرقي للمحكمة الجزئية، أما الملاحق الشمالية فقد شُغِلَت بمحكمة الضمان والأنكحة قبل انتقالها الأخير إلى حي السليمانية.
ـ في محكمة الضمان والأنكحة هذه عملت مندوباً ستة أشهر اِمْتَنَّ بها عليَّ مجلسُ القضاءِ الأعلى، فكانت نقطةَ تَحَوُّلٍ هَامَّةً في مسيرة عملي القضائي؛ لأمورٍ سأبسطها في حينها.
المهم في الأمر: أنَّ هذه المحكمة يعمل بها ذلك الوقت قاضيان رسميان، ولا تنفك عن ثلاثةٍ أو أربعةِ قضاةٍ مندوبين من مقام الوزارة من ذوي الحاجات والظروف الطارئة.
ـ في تلك المحكمة كان لي مكتبٌ ضمن غرفةٍ مشغولةٍ بأربعة مكاتب لاستيعاب قضاة الندب أمثالي، ويفصلها جدارٌ لم يكتمل عن غرفةٍ أخرى جُعِلَت مقراً لمكتب الصلح في المحكمة؛ للتوفيق بين الزوجين متى طلب الزوج تطليق زوجته.
= كان القائم على مكتب الصلح هذا رجلٌ صالحٌ - أحسبه كذلك، والله حسيبه – شهادته النظامية الثانوية العامة، وشهاداته الأخرى: الخبرة، الحكمة، الأناة، حسن القصد بصدق إرادة الإصلاح؛ كما قال تعالى ( إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا)، وشواهد ذلك كثيرة؛ منها:-
1/ في الوقت الذي يستغرقه ستة قضاةٍ في إثبات النكاح والطلاق والرجعة والحاجة للضمان الاجتماعي، يكون هذا المصلح قد وَفَّقَ بين أزواجٍ وزوجاتهم بما نسبته 40 في المائة تقريباً من قضايا الطلاق المعروضة على تلك المحكمة.
2/ إثبات الطلاق في العادة يرصده كاتب الضبط قبل توثيقه من القاضي، الذي مهمته التأكد من صحة المعلومات الواردة في نموذج إثبات الحالة قبل التوقيع، في حين يتولى المصلح نفسه مناقشةَ كلٍ من الزوجين، وسماعَ ما لديهما، وتحديدَ سبب المشكلة، وبذلَ الوِسعِ في التقريب بين الزوجين باستخدام أنواع المُرَغِّبَاتِ التي دَرَجَ الأزواجُ على المطالبة بها أو الاقتناع بجدواها، مثل: تعويض الترضية، تخصيص السكن المستقل ولو بعد حين، فرض الزيارة المطلوبة، تحديد وقت الزيارة ومدتها بحسب الحالة، إقامة عدلٍ يرتضيه الزوجان لمتابعة تطبيقهما شروط الاتفاق، والتبليغ عن المخالف ونوع المخالفة، ونحو ذلك من الحلول المؤقتة والجذرية.
3/ أغلب القضايا المعروضة على القضاة للبت فيها بصفةٍ حاسمة لا تقبل المراجعة؛ إلا في إجراءٍ جديدٍ محسوبٍ ومقتسمٍ بين القضاة بالسويَّة، في حين أن هذا المصلح يتولى كُلَّ مضاعفات القضايا التي يُصلح فيها بين الأزواج؛ خصوصاً عند اختلال الاتفاق لأيِّ عارضٍ دون كللٍ ولا ملل.
ـ الغريب في أمر هذا المصلح: أنَّني في لحظات الاسترخاء النادرة في تلك المحكمة، ولأنَّ الجدار الفاصلَ بين غرفتينا مفتوحٌ في ثلثه الأعلى تقريباً، كنت أسمع كلام الزوجين بوضوحٍ تامٍ؛ هذا إن لم يكن الصوتُ يُسمع أحياناً من أبعد من مكاني، أمَّا كلام المصلح للزوجين - فَعَلَى قِلَّتِهِ وَوَجَازَتِهِ - يكاد يكون همساً، لا يُمكِنُ استيعابُ محتواه كاملاً لغير المخاطبين به.
ـ لقد رأيت الإسهاب في هذا الموضوع؛ لمعايشتي إياه أكثر من ستة أشهر، ولأني اطلعت على خبر سقوط توصية الأستاذ حمد القاضي بتكوين لجانٍ للصلح في المحاكم بعد التصويت عليها في مجلس الشورى يوم الأحد 11/ 5/ 1428هـ، فأحزنني كثيراً أنَّ الغالبية في مجلس الشورى لم يتصوروا أهمية هذه التوصية، الأمر الذي دعاهم للتسبب في إسقاطها سامحهم الله.
ـ للبيان أكثر: أعرض للإخوة الأفاضل في مجلس الشورى - بعد الإشادة بموقف الأستاذ حمد القاضي - أمر قسم الصلح في المحكمة العامة في مدينة جدة.
أولاً/ يحال إلى قسم الصلح فيها أكثر من ربع القضايا الواردة إلى المحكمة في القضايا الأسرية.
ثانياً/ ينتهي بالصلح أكثر من نصف القضايا المحالة إلى القسم، ولا يحتاج للمتابعة منها إلا 20 في المائة فقط.
ثالثاً/ ما لا ينتهي بالصلح من القضايا المنظورة في القسم المذكور يصدر - بشأن 70 في المائة منه - توصياتٌ موفقةٌ للقاضي تساعده على حسم القضية.
رابعاً/ ما لم أقدر على استيعابه للوهلة الأولى هو: أنَّ المصلحين الثمانية العاملين في هذا القسم محتسبون، أي: بلا رواتب!، ولا مكافآت!
خامساً/ عندما سألت عن مِهَنِ هؤلاء الأفذاذ - في الأصل - ذكر لي فضيلة رئيس المحكمة: أنَّ أغلبهم من رجال التربية والتعليم المتقاعدين، كما أفاد: أنَّهم ملتزمون بالدوام الرسمي؛ كما لو كانوا في دوائرهم قبل التقاعد، بل أضاف فضيلته: أنَّ بعضهم قد يُسهم بشيءٍ من ماله في بعض الحالات التي تحتاج إلى الدعم المادي.
سادساً/ أجرت المحكمة دراسةً حول موضوع الصلح جاء فيها: أنَّ لجنة العفو وإصلاح ذات البين في إمارة منطقة مكة المكرمة قد أنهت بالصلح ما يقرب من ربع قضايا طلب القصاص في المنطقة، كما جاء في الدراسة: أنَّ مركز المودة الاجتماعي في جدة أنهى 76 في المائة من القضايا التي استقبلها بالصلح أيضاً.
ـ تُرى لو أُحيلت تلك القضايا إلى المحاكم ابتداءً، كم سيزداد العبء على قضاتها فوق ما هم محتملون.
ـ إذا كانت هذه إنجازات مكاتب الصلح، فهل لأحدٍ بعد ذلك أن يتسبب في إسقاط توصيةٍ بإقرارها وتنميتها ورعايتها؛ لِتُحَقِّقَ نتائج أَعَمَّ وَأَشمَلَ في قضايا المنازعات.
ـ إنني إذ أذكر هذه البشائر السارة حول ما يجري من محاولاتٍ جادةٍ من نفرٍ من المخلصين؛ لإحقاق الحق والعدل والإحسان بين أفراد المجتمع السعودي: لأرجو من مجلس الشورى الموقر إعادةَ النظرِ في توصية الأستاذ الفاضل حمد القاضي، فما مَثَلُهُ - يحفظه الله - إلا كَمِثلِ مَن مَرَّ ذِكرهم من المصلحين؛ إذ كُلُّ إِنَاءٍ يَنضَحُ بِمَا فِيه. والله الموفق.
