تستأثر عقود التشغيل والصيانة للبنية التحتية والمرافق العامة في المملكة بحصة كبيرة من ميزانية الدولة تقارب نسبة 17 في المائة من مجموع الاعتمادات (عدا الرواتب) أو ما يعادل نحو (35) مليار ريال سنوياً، وهو مبلغ متوقع نموه بمعدلات عالية كي يواكب حجم التوسع في الإنفاق العام واكتمال تنفيذ مراحل جديدة من شبكات الخدمات والمشروعات الحكومية في سائر بقاع الوطن. وفي الوقت الذي تعد فيه تلك العقود محركاً فاعلاً في دورة الاقتصاد الوطني، فإنها أيضاً حاضنة للآلاف من فرص العمل في مجالات ومهن متعددة.
غير أنه من المؤسف القول إن الإفادة من تلك العقود كحاضنة لتوفير وظائف للمواطنين لم تزل ضئيلة بكل المعايير على الرغم من الجهود الكبيرة التي تبذلها وزارة العمل والجهات الحكومية الأخرى، والقرارات التي صدرت من الدولة على مدى العشرين عاماً الماضية والقاضية بأن تكون أولوية التوظيف للسعوديين وتحديد نسب إلزامية متدرجة للسعودة وما صاحب ذلك من حوافز وعقوبات. إذ اصطدمت تلك الجهود بعقبات نجد جذورها في قِصر المدة المحددة من قبل الدولة لعقود التشغيل والصيانة والتي لا تزيد على (3) سنوات وهي مدة لا تسمح بتوفير وظيفة مستقرة للمواطن الذي يتطلع لتنظيم حياته وتكوين أسرة، ناهيك عن تأهيل كوادر مدربة تبني تاريخها المهني من خلال التدرج في سلم عملي منتج يضيف للاقتصاد الوطني خبرات تراكمية تزداد عاماً بعد آخر.
لذا عندما عُرض " مشروع نظام المنافسات والمشتريات الحكومية " الجديد على لجنة الشؤون المالية في مجلس الشورى للدراسة خلال دورته الرابعة المنصرمة، تنبهت اللجنة للآثار السلبية التي ترتبت على تقييد مدة عقود الخدمات ذات التنفيذ المستمر، كالصيانة والتشغيل والإعاشة، بثلاث سنوات فقط والتي حُددت أصلاً في ظل أوضاع اقتصادية واجتماعية تختلف كلية عما تعايشه المملكة اليوم. إذ أصبح هناك الآلاف من الشباب يبحثون عن عمل، كما أن المنافسة الاقتصادية تتطلب أن نحسن إدارة مواردنا ورفع مستوى كفاية خدماتنا. وبعد قدر كبير من التداول والنقاش أوصت اللجنة بفك القيد الحالي عن مدة عقود الخدمات بزيادتها من (3) سنوات إلى (5) سنوات، مع جواز زيادتها إلى فترات أطول ( دون سقف أعلى ) بعد موافقة وزارة المالية للعقود التي تتطلب طبيعتها أو حجم استثماراتها تلك الفترة الطويلة.
وكان من بين المبررات التي طرحتها اللجنة أمام المجلس لدعم توصيتها توفير فرص عمل للمواطنين في وظائف ذات بيئة مستقرة، المحافظة على استمرارية الخدمة في المرافق العامة، تقليص الهدر في المال العام الذي يصاحب تعدد عملية التسليم والتسلم بين المقاولين، خفض تكلفة العقود باستهلاك المعدات والتجهيزات التي يوفرها المقاول على فترة أطول، وتشجيع إنشاء شركات متخصصة ذات كوادر وطنية وخبرات متراكمة يمكن تطويرها إلى شركات مساهمة مستقبلاً وفتح فرص جديدة للاستثمار أمام المواطنيـن.
وقد أقر مجلس الشورى مشروع النظام شاملاً ما أدخل من تعديل على المادة (28) منه بزيادة مدة عقود الخدمات ذات التنفيذ المستمر، وصدر المرسوم الملكي رقم م/58، وتاريخ 4/9/1427هـ بالموافقة على "نظام المنافسات والمشتريات الحكومية" الذي أصبح نافذاً بتاريخ 20/2/1428هـ.
إن المرونة التي منحها النظام الجديد في تحديد مدة عقود التشغيل التي تبرمها الدولة ينبغي اغتنامها بمبادرة من وزارتي العمل والمالية، ولعل الخطوة الأولى في تلك المبادرة التركيز على شروط منافسات العقود التي تزيد تكلفتها السنوية على (100) مليون ريال، ثم الأقل فالأقل، بحيث تُفرز الوظائف التي يمكن شغلها بسعوديين على نحو يوضح مسمياتها، مؤهلاتها، رواتبها، ومواقعها، ثم على ضوء تلك المعلومات، مع اعتبارات أخرى بالطبع، تُحدد المدة الملائمة للعقد قبل طرحه للمنافسة لتوفير قدر معقول من الاستقرار الذي ينشده كل امرئ في عمله.
تلك المبادرة إن تحققت ستقدم آلاف الوظائف للمواطنين، مع زيادة في إنتاجية خدمات الصيانة والتشغيل في المرافق العامة وتوفير الكثير من الهدر في المال العام، غير أن ذلك يتطلب عملا مؤسسيا منظما أحسب أن وزيري العمل والمالية حريصان على بنائه ورعايته.
