أكد معظم الباحثين في مجال البيئة الإبداعية أهمية الاستقلالية والحرية التي تمنح للمجموعة والفرد داخل المنظمة. حيث يشيرون إلى أن الإبداع يعزز لدى الأفراد والمجموعات التي لديها استقلالية عالية نسبيا في ممارساتهم أعمالهم اليومية وعندهم شعور بالسيطرة والملكية على أعمالهم وأفكارهم. ويرى روجيرز أن الشروط الداخلية للإبداع (التفتح على الخبرات، التقويم الداخلي، واللعب بالمفاهيم) تظهر عندما يشعر الفرد بالأمان النفسي وبالحرية. ويقدم إساكسن وصفا لأبرز المظاهر في بيئات العمل التي تتسم بالحرية:
* يقدم الموظفون المعلومات ويستقبلونها.
* يناقشون المشكلات والخيارات.
* يبادرون.
* يضعون الخطط.
* يتخذون القرارات. وتدعم إمابيليه في دراساتها أهمية الحرية بقولها إن الأفراد ينتجون أعمالا إبداعية أكثر عندما يشعرون بأن لهم الخيار في تحديد كيفية إنجازهم المهام الموكلة إليهم. ويقول إنشتاين "كل شيء عظيم وملهم أوجد بواسطة فرد يعمل بحرية". ويشير هول وبلنكيت إلى أن من أهم العوامل التي لها تأثير إيجابي في الإبداع هو قدرة الموظفين على المشاركة في عملية اتخاذ القرار في المنظمة. ويضيف جيمس كولنز وجيري بوراس في كتابهما المشهور "البناء من أجل الاستمرار: العادات الناجحة للشركات الرائدة" أن الشركات الرائدة في دراستهما أقل مركزية وتعطي استقلالا تشغيليا أكبر من الشركات المقارنة. بل إن شركة Pfizer وهي من الشركات المشهورة في مجال ابتكارات الأدوية أنشأت قسم البحث والتطوير التابع للشركة في بريطانيا بدلا من مقر الشركة في الولايات المتحدة الأمريكية حتى تبعده عن المعوقات البيروقراطية التي قد تواجهه في المقر الرئيس للشركة. وفي الجانب الآخر يصف إساكسن المظاهر في المنظمات التي تقيد الحرية بأن الموظفين عادة ما يكونو سلبيين ومثقلين بالقواعد والأنظمة ويشعرون بالخوف إذا انحرفوا قليلا عن الحدود التي فرضتها المجموعة أو المنظمة. وهناك عبارة مشهورة لماك نايت المدير التنفيذي السابق لشركة 3M يقول فيها، "إذا وضعت الأسوار حول الناس فلن يكونوا إلا كالخراف، أعط كل إنسان الفراغ الذي يحتاج إليه". ويقول ماك نايت أيضا:
اعلم أنه سوف تحدث أخطاء إذا أعطيت الناس الحرية وشجعتهم على العمل بأفكارهم الخاصة، ولكن الأخطاء التي ستحدث لن تكون خطيرة كخطورة الأخطاء التي ستقع فيها الإدارة إذا كانت دكتاتورية، وتفرض على من يعملون تحت إمرتها متطلبات الوظيفة بالتحديد. وينبغي ألا تُفهم الحرية على أنها تسيب أو فوضى أو أنها حرية مطلقة بلا قيود، ولكنها حرية متوازنة تتم وفق بناء وتصور يدعمان الاستقلالية والإبداع. كما أن منح الحرية يتم وفق درجات حسب نضج المجموعة أو الفرد، فمع زيادة نضج المجموعة وتراكم خبراتها تزداد درجة الحرية الممنوحة لها. كما أن مساحة الحرية التي يتطلبها الفرد داخل المنظمة قد ترجع إلى نمطه الإبداعي، فالمبدع المبتكر يحتاج إلى مساحة أكبر من الحرية مقارنة بالمبدع المتكيف. حيث يفترض كيرتن أن جميع الناس مبدعون ولكن يختلفون في نمطهم الإبداعي، فهناك المبدع المتكيف وهناك المبدع المبتكر. فيصف سلوك المبدع المتكيف بأنه عندما يواجه مشكلة ما عادة ما يتوجه إلى القواعد والممارسات التقليدية للمجموعة التي ينتمي إليها، ويستمد أفكاره تجاه حل المشكلة من الإجراءات المعدة سلفا. بينما يصف المبدع المبتكر بأنه عندما يواجه مشكلة يعيد تنظيم وبناء المشكلة ويتناولها برؤية جديدة متحررا من أي افتراضات مسبقة تفرضها المجموعة التي ينتمي إليها؛ لذا فقد يأتي بحلول غير متوقعة وفي بعض الأحيان لا تحظى بقبول المجموعة. كما أن ثقافة المجتمع قد تفضل نمطا إبداعيا على نمط آخر. فقد أجرى كاتب المقال دراسة للتعرف على وجهة نظر عينة من الأشخاص العاديين (أفراد العينة 201 ويمثلون شرائح مختلفة) في المملكة العربية السعودية حول أي من النمطين السابقين أكثر إبداعا من الآخر. حيث قدم وصفا للشخصية المبدعة المتكيفة ورمز لها بـ (أ)، ووصفا للشخصية المبدعة المبتكرة ورمز لها بـ (ب)، ثم طلب من المبحوثين أن يمنحوا درجة من 1 إلى 10 لكل شخصية بحيث يمثل رقم 1 شخصية غير مبدعة ورقم 10 شخصية مبدعة بشكل استثنائي. وأشارت نتائج الدراسة إلى اعتبار الشخصية المبدعة المتكيفة أكثر إبداعا من الشخصية المبدعة المبتكرة، وهذه النتيجة تختلف مع نتيجة الدراسة التي أجراها بوشيو وكيمنتو في الولايات المتحدة الأمريكية والتي أشارت إلى أن الشخصية المبدعة المبتكرة أكثر إبداعا من الشخصية المتكيفة. ومن هنا يتبين أن المجتمعات قد تفضل نمطا إبداعيا على نمط إبداعي آخر وبالتالي قد يؤثر على المناخ السائد في منظماتها مما يجعله يتكيف مع النمط المقبول مجتمعيا.
ما مساحة الحرية المتاحة لك في عملك الحالي؟ وهل لها تأثير على أدائك مهام عملك؟
مستشار في التربية والإبداع