اللبنانيون: نيّالكـُن بخوجة

[email protected]

* أهلا بكم في مقطفات الجمعة ـ 196, وأرجو أن تنال رضاكم.

* كنتُ مع أخي هشام في لبنان، وما رأينا وما سمعنا في لبنان في الأيام المختصرة التي قضيناها هناك شدنا حتى النخاع. لا يسع الورقُ هنا الشعورَ، والملاحظات، واللهث السياسي، والتردي الاقتصادي، والتضجر الجماعي، والضنك الاجتماعي، والدمعة الكبرى بحجم وطن صغير شمل يوما العالم، اسمه: لبنان. ولن نخرج هنا عن أهم موضوعين في لبنان اليوم. لبنان، وسفيرنا في لبنان!
***
* بيروت مدينة مذبوحة، وموليير الذي قال إن الشعورَ يرحل ويبقى الجمال، لم ير أو يتنبأ بمدينة كانت يوما كل الجمال، ومهابط كل الشعور.. الذي حدث أن الشعورَ تغير، وتيبس، وبعضه توحش، وبعضه تسربل بذئب قصة البنت ذات الرداء الأحمر، وبعضه تكسر يأسا، وبعضه يرى عظمة صخرة الروشة بفرادتها الجيولوجية الآخذة لعروق القلب، ويحتار هل يقف عليها لتمر أمامه مشاهد التاريخ منذ رحيل أول فينيقي لينير العالم، إلى أن كانت بيروت المصباح المضيء الوحيد في عتمة العالم العربي .. ثم يراها تهوي من خلال ثقب في بالون الزمن لتطير إلى العدم .. أو يرى ماء المتوسط الأزرق تحته فيرمي إما جسدَهُ، وإما إيمانَهُ بعودة طائر الفينيق، الذي يذبح كل يوم من الوريد إلى الوريد.
***
* بيروت نائمة اقتصاديا، متحجرة سياسيا، متبلدة ديبلوماسيا، رُكِّبَتْ رؤوسُ قوى لبنان على موجة عنيدة، وكل موجة لا تبث إلى الموجة الأخرى، بيروت لوحة كهرباء ضاربة الأسلاك، مولد منزوع الموصِّلات، ماء يتناثر إلى كل مكان إلاّ ليروي أرزة لبنان المجيدة .. ويهلك في جفاف الاقتتال والتناحر، واجتماعات الظلام، وتمرير أجزاءَ جسد الوطن البضّ إلى من يشتري في السوق، ومن يعيد البيع. وأقرأُ كل صباح في أشهر صحف لبنان، وإذا هي ذات الأخبار، وذات المواقف، وتعالوا شوفوا واضحكوا على المهاترات يا متفرجي العالم، خصوصا الرسائل والرسائل المضادة التي وجهت إلى أمين الأمم المتحدة، حول المحكمة الدولية للتحقيق في الموضوع الأول في لبنان عن اغتيال سيد لبنان رفيق الحريري .. رسائل مضحكة من تهديد ووعيد وألفاظ لا تليق بفتوة الحارات، تتراشق بين رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء، وريس كتلة المستقبل في البرلمان. مما دعا قبل أمس لراعي أبرشية معتزل، بكتابة مقال في "النهار"، يطالب فيه بالعودة للرشد، وكان مقالا مثل الخطبة التي يلقيها مدير مدرسة لزمرة من زعران المدرسة. مات سيدُ لبنان، ولم يترك سيدا وراءه.. مجرد أطفال يتنازعون الحلوى، الفرق الرهيب: أن الحلوى هنا.. هي مصير الناس!
***
* لم تعد بيروت باشـّةً، ولا يجري في عروقها دمُ الفكر، والترفيه، وطيورُ السعادة التي كانت تشقشق من كل زاويةٍ في بيروت العريقة، قلبُ المدينة مخطوف، وكل يوم تـُسرقُ نبضاتٍ من دفقه الحيوي، يُعصَر كل يوم، وتـُستنـَزَفُ شرايينـُهُ كل يوم. "السوليتير" الذي بني ليكرس كون بيروت أكثر المدن على المتوسط استدرارا للترويح اليومي، والسياحي، والمنشط التجاري، بات مخيما بدائيا لمجموعات تسمي نفسها المعارضة، والغريب أن الهدفَ غير المخفي هو شل الاقتصاد، الأكثر إثارة للضحك المرِّ الأسود، إنهم يقولون إن ذاك من أجل إسقاط الحكومة، حكومة السنيورة .. هل تعرفون قصة الطفل الذي قطع إصبعَهُ كي يحرق دمَ أمِّه.. نعم، تماماً!
***
* تسأل كل لبناني: هل هناك أمل؟ هل ترون ضوءا تحت ركام الانهيار؟ يقولون لك: "كلا لا نرى.. ولكننا متفائلون". لولا الأمل في قلب كل بناني، لعدنا إلى ذاك المشهد، مشهد الواقف على صخرة الروشة، يرقب الزمن، واندثار الزمن.
***
* على أن في لبنان من يجمع على محبته اللبنانيون، والأكثر روعة، هو أنهم معجبون به، ويتكلمون عنه كالمستهام في حالة الإشراق والهيام (عفو التداعي الصوفي)، ولكني أتكلم عمن أسميه من سنين بمنارتي الهادية، أستاذنا ومعلمنا والمعلم الديبلوماسي المحنك الدكتور عبد العزيز خوجة. وأنا أقول لك يجمع من واقع إحصائياتي أنا، وجاءت 100 في المئة، قابلت شيعة، ومارونيين، وكاثوليك، وأرمن، وأرثوذكس ودروز، وجلست معهم جلسات المرتاح المتخفف في منازلهم، وكان الإجماعُ أن الساكنَ في السفارة السعودية هو باتفاق لبنان، رجل عظيم، ومنارة تصل إليها القوارب التي أنهكتها موجات التحارب اللبناني، وكنت في السفارة وهو يقابل نوّابا من الجنوب اللبناني، وخرجوا مشرقين، وقلما ترى وجوها باسمة من مسؤولي الجنوب، بل على سيمائهم دوما الاحتجاج والغضب وقلة الثقة، فقراهم مدمرة، وأموال التعمير ضائعة، وهم ثائرون تتقاذف الكلمات منهم كالرصاص، ثم يخرجون بشـِري الوجوه من عرين الديبلوماسي الذي أظنه الأول في العاصمة اللبنانية. من المطار حتى المطار مرورا بكل من قابلت يرددون ذات الجملة: " يا نيالكن، سفيركم عبد العزيز خوجة".. نعم صدقتم، نيــّالنا!
***
* ولقد وجد الدكتور خوجة بعض الوقت ليتبادل بعض الأشياء معي، والحقيقة أنه يعطيني المعرفة، وأنا وراءه إما ضاحكا وإما متأسيا، وفي كل الحالات طربا بالإعجاب بمنارتي الهادية، إنه رجل في شمائل تسعة رجال، وهو مضيء حرفيا، ورغم الضغوط المهيبة إلا أن روحه باسمة، ومتهللة ومشرقة، وفي فكره شرار أثيري يسري في وجودك فتسبح في خمائل النور. وكان وقتها يقول لي مقهقها، ونحن معا نراجع شعره البديع المنقطع العاطفة والتسامي، أن الكاتب سمير عطا الله فضحه يوم الثلاثاء المنصرم في الشرق الأوسط عن قصيدته "لقاء ساعتين"، وكان يتساءل أين قضى الدكتور هاتين الساعتين وسط المشاغل، وكان وقتها باجتماع مع نبيه بري رئيس النواب اللبناني، الذي هاتفه بعد المقال قائلا: "إني أنكر أنك كنت معي في هاتين الساعتين، وأن زوجتي ستزور حرمكم رسميا لتقدم مذكرة توضيحية بعدم وجودكم معنا؟"، قهقهةُ معالي السفير لم تمنعني طبعا من رفع حاجبي .. "همم، إن صدق نبيه بري، فنعم أين كان سفيرُنا في بحر ساعتين .. وأياً من البحار؟!".
***
* والشاعر فريد زمانه، ودرة مكانه، المعروف بالدكتور عبد العزيز خوجة يقول في "لقاء ساعتين":
أنتِ من أنت على الدرب خيالٌ في خيالْ
جئتني أسطورةً من قصص الحبِّ المُحالْ
ثم قلنا إنه الحبُّ، وصدّقنا الظلالْ
أيُّها الخافقُ مهلاًً... لم يكن إلا... لقاءُ الساعتين

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي