الإفلاس الإداري بين المسؤول والموظف.. فكْ وأفكْ

[email protected]

أصيبت دوائرنا الإدارية منذ أمدٍ بعيد بسهام التكاسل الإداري، وتشكّلت حول جراحها الرتابة والبطء في التنفيذ وانعدام الرؤية، الذي حجب بدوره للأسف أي بادرة ممكنة للتقدّم أو إحداث تغييرات نوعية في آليات العمل. قد يظن البعض أن هذا التكاسل الذي اعتدنا مشاهدته بالعين المجرّدة على أسطح مكاتب الكثير من المسؤولين والمديرين والموظفين بصورة تتركز "أتربتها" في أروقة القطاع الحكومي فقط! والحقيقة أن هذا "الغبار" ممتد أيضا, بكل أسف, إلى الأسطح الفخمة لمكاتب القطاع الخاص, شركات كبرى ومؤسسات صغرى، وإن كان بدرجةٍ أقل كثافة من "أغبرة" القطاع الحكومي. كتبتُ قبل أكثر من عام ونصف العام من تاريخ اليوم حول ضرورة استنباط قوانين وأنظمة كالمعمول بها في خصوص حالات الإفلاس المالي والاقتصادي، وأن يتم اقتراح مؤشرات إدارية كميةً يمكن لنا من خلالها قياس إنتاجية وكفاءة قيادات ومسؤولي تلك الجهات في الحكومة والقطاع الخاص، لنتعرف من خلالها على المنتج من المفلس، وأنها خطوة تنموية مهمة جداً, الهدف الرئيس منها حماية مصالح وحقوق الآخرين المرتبطة بأعمال الأشخاص أو الجهات الموشكة على الإفلاس. وفي رأيي أن الأمر أصبح قريبا جداً مناله بعد صدور لوائح تنظيمية تتماشى مع ما نسعى إليه في هذا الخصوص، ولعل لائحة حوكمة الشركات المطبقة في الوقت الراهن على مجالس إدارات الشركات المساهمة في سوق الأسهم هي المثال الأقرب إلينا هنا، وكم ستكون النتائج الخارجة عن توطيد مثل تلك اللائحة وتعميمها على مؤسساتنا العامّة والخاصة "مفاجئة" جداً إلى حد الذهول؟ وكم ستكون تلك النتائج "صدمة" كبيرة لنا جميعاً حينما ينكشف المستور تحت "كراسي" شاغلي تلك المناصب والمسؤوليات؟! وكيف استطاع مثل أولئك "الحبايب" البقاء طوال تلك الفترة الممتدة لعقود من الزمن خلف مكاتبهم الفخمة؟ رغم تلك "الدلاخة" القيادية والإدارية المنقطعة النظير!
أتساءل أحياناً كثيرة: كم من الجهات الحكومية والأهلية لدينا حالها كحال شركتي بيشة وأنعام اللتين تمَّ إيقاف التعامل عليهما أخيرا؟! وقياساً على مشاهدتي اليومية ولما لمسته من معاناة الكثيرين من أفراد المجتمع ذكوراً وإناثاً على صفحات الصحف اليومية من شكاوى لا أول لها من آخر، وفي المجالس العامّة، ومن خلال ما يتناقله الأفراد من نوادر عجيبة حدثت لفلان من الناس مع تلك الجهة سواء كانت جهةً حكومية أو إحدى الشركات والمؤسسات، أؤكد قياساً على ما سبق أعتقد أن حالة جزء لا يُستهان به من تلك القطاعات انحدر إلى مستوى أسوأ من وضع شركتي بيشة وأنعام، وأن المسؤولين في تلك القطاعات ليسوا بأفضل حالٍ من حال مجالس إدارات تلك الشركات، وأن الوضع المتردي في تلك الجهات قد يكون أسوأ مما قد نتخيل جميعاً. يمكن القول إن الله سترها معنا فيما مضى من الدهر، وإن الخسائر الناتجة عن تلك الحالات من الإفلاس في أدمغة بعض أولئك المسؤولين ومن بعدهم مديريهم ومن تحتهم موظفيهم لم تصل رغم فداحة بعضها إلى "كسر الظهر"، إلا أن العصر الراهن وما يحمله المستقبل من تحدياتٍ جسيمة يدفعني إلى القول دون جدال إن حدود تلك "الستارة" قد وصل إلى نهايته تماماً. إننا مقبلون كغيرنا لا فرق بيننا وبين آخر، على حقب من الدهر الفائز فيها فقط من ينجز المسؤوليات الملقاة على عاتقه بكفاءة عالية، ومن ينتج بجودةٍ منافسة، ومن يتطور بصورةٍ حقيقية لا بتصريحاتٍ واهمة وسطحية، ومن يحقق قيماً مضافة إلى عمله تتحدث عنه بصدقٍ على أرض الواقع لا أن يتحدث هو عنها بما ليس فيها في تصريحاتٍ "غثيثة" أكثر منها "صريحة".
آن أن يتحطّم الصندوق الأسود للتكاسل الإداري في أي بقعةٍ من بقاع قطاعاتنا الحكومية والأهلية دون استثناء، وآن لأروقتنا الإدارية أن يدخلها الهواء النقي لتطرد أغبرة التكدّس الجامدة الرافضة عن ضيق أفقها وقِصر نظرها لأي تطويرٍ أو إبداع. آن أن تترسخ في ذهن كل مسؤول أو مدير أو موظف أن المكان الذي يشغله ليس حقاً مكتسباً، وليس حكراً عليه، وليس مكاناً لـ "يغثّنا" بتشريفه، وأنه باختصارٍ لا تشوبه شائبة في موقع "تكليف"، وأنه محاسب على أي تقصير يمكن أن يصدر عنه، وأن باب مكتبه الذي دخل منه ذات "يومٍ سعيد" بالنسبة إليه، أنه الباب ذاته الذي يمكن أن يغادره إن لم تثبت جدارته لتنفيذ مهام ومسؤوليات ذلك المنصب أو تلك الوظيفة! لنجعل نصب أعيننا مصلحة هذا الوطن ومواطنيه، لنجعلها كذلك قبل "الفرحة الواهمة" بالمنصب أو الوظيفة، ولنجعلها قبل "الطمع" في الراتب والبدلات والامتيازات وخلافه، ولنجعلها قبل أي اعتبارٍ ضيق الإدراك والوعي. وحتى لا أطيل الحديث في هذا "الجرح الغائر" أصدقكم القول، إن الأمر يتطلّب رصيداً ضخماً من خوف الله ثم وطنية صادقة ومخلصة وكرامةً في النفس ولا أكثر من ذلك ليتحقق ما سبق أعلاه. والله ولي التوفيق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي