من لا يملك شيئا لا يخسر شيئا!
تتحف جريدة "الاقتصادية" قراءها بمقالات رصينة يكتبها رجال أعمال وأكاديميون ومتخصصون في مجالات اقتصادية وإدارية عديدة، ممن يتمتعون بخبرات واسعة وتجارب متميزة. فإضافة للكوكبة الرائعة من كتابها ومحلليها الدائمين، يطل علينا بين الحين والآخر عدد آخر من الكفاءات الوطنية التي تدلي بآراء رصينة في عدد من قضايانا ومشكلاتنا الاقتصادية الجارية. والقراء ما زالوا يذكرون السبق الصحافي المتميز الذي قامت به "الاقتصادية" عندما نشرت ذلك المقال المنهجي الشهير الذي كتبه الدكتور سليمان السليم وزير التجارة ووزير المالية الأسبق عن اقتصادنا الوطني في العام الماضي. كما أن جمهور القراء يحتفون دائما بكتابات رجال جمعوا بين العلم والخبرة من أمثال الدكتور عبد الرحمن الزامل وكيل وزارة التجارة الأسبق وعضو مجلس الشورى الحالي، هذا فضلا عن كتابات بعض رجال الأعمال المرموقين مثل الشيخ محمد السبيعي والأستاذ عبد الرحمن الجريسي والمهندس حسين أبو داود وسواهم مما لا تسع المقام لذكرهم جميعا.
وكان آخر من شارك في الكتابة في الأسبوع الماضي الدكتور فيصل البشير الذي يعتبر واحدا من أوائل الاقتصاديين السعوديين المرموقين. ففضلا عن سابق تجربته في عمله الحكومي كوكيل لوزارة التخطيط، يحظى الآن بخبرة عملية واسعة من خلال ترؤسه لعدد من المؤسسات الاقتصادية الخاصة. كتب الدكتور فيصل مقالا مهما عن ظاهرة التضخم، أكد فيه أن الجميع يتفق الآن على أن التضخم قد بدأ فعلا يسرى في جسم اقتصادنا. وحذر من الآثار غير المحمودة لهذه الظاهرة على مستوى معيشة الناس وعلى الاقتصاد. ونبه إلي أن أخطر ما في التضخم هو أن علاجه يأخذ وقتا طويلا ويستلزم، في كثير من الأحيان، تكلفة عالية للقضاء عليه. وأشار إلى ما سبق أن كتبنا عنه مرارا، من أننا ما زلنا نفتقر بشدة إلى مسوحات إحصائية لمؤشرات اقتصادنا، فهي إما منعدمة أو غير دقيقة أو متباعدة في تكرار حسابها ونشرها وتحديثها، ما يضعف من دلالتها وقيمتها وصدق تعبيرها عن واقعنا.
وشدد على حاجتنا الماسة لسياسات اقتصادية أكثر كفاءة من أجل استغلال الطاقات الإنتاجية الكامنة في اقتصادنا. إذ يجب استغلال موارد النفط في الإسراع بتنفيذ مشاريع التنمية وعدم الخوف من التضخم. وكلامه صحيح، لأن التضخم المحلي المؤذي لا يحدث غالبا بسبب برامج التنمية بل بسبب تعطيلها وتأخيرها والاكتفاء بحقن الاقتصاد بسيولة عالية دون أن يقابلها نشاط ومشاريع اقتصادية حقيقية.
وكنت قد كتبت قبل نحو ثلاثة أسابيع عن ظاهرة ارتفاع الأسعار التي بدأ الناس يعانون منها ويكتوون بسعيرها. (التضخم: كفاية ضغطك علينا!! "الاقتصادية" السبت 29 محرم 1428هـ، 17 شباط (فبراير) 2007م ). وأشرت إلي أهمية تصدي السلطات الاقتصادية في بلادنا لهذه الظاهرة بكل جدية وبكل الوسائل والسياسات الاقتصادية الممكنة، حتى لو استدعى ذلك استخدام عوائد النفط في شكل إعانات مباشرة أو غير مباشرة للتخفيف من آثار تضخم الأسعار خاصة على الطبقات الكادحة في المجتمع على الأقل، طالما كانت زيادة أسعار النفط وارتفاع عوائده سببا أصليا تفرعت منه هذه الظاهرة.
كما ذكرت في إحدى المحطات الفضائية، أن من أهم سياسات التخفيف من حدة التضخم العمل السريع على زيادة عرض السلع والخدمات من الإنتاج المحلي والمستورد، عن طريق العمل علي إزالة كل العوائق التنظيمية والإدارية التي تقف حائلا دون ذلك. فمن غير المعقول أن نكبل أنفسنا بالإبقاء على سياسات وضعت لظروف فترة سابقة. فالناس تعاني مثلا من ارتفاع أسعار مواد البناء ارتفاعا مرهقا شوه عقود المقاولات وعطلها. فكان يجب علينا أن نسرع في السماح باستيراد الأسمنت حتى دون جمارك عندما يعجز العرض المحلي عن تلبية الطلب، وأن نمنع تصدير الحديد إذا كان السوق المحلي في حاجة إليه.
إن إحدى مشاكلنا الكبرى هو سوء الإدارة وبطء اتخاذ القرارات، وهو ما لا يتوافق مع دواعي النمو السريع في عدد سكان البلاد وزيادة ضغط طلبهم على مختلف السلع والخدمات. إنه أمر يستدعي منا أن ننخلع من الارتهان للسياسات والإجراءات القديمة المتهالكة عديمة الجدوى. إن مجتمعات كثيرة تتمنى لو يتوافر لها ما لدينا من إمكانات وفرص لتصنع منها العجب. فبلادنا تتوافر لها موارد هائلة وفرص استثمارية واعدة وأسواق كبيرة، وكثيرا ما يكون سوء الإدارة سببا في تعطيل الاستفادة من هذه الفرص. وليس هناك ما يضمن تكرار الفرص أو استمرارها خاصة وأن اقتصادنا مازال رهن تقلبات عوائد النفط.
وذكرت كذلك في ذلك اللقاء الفضائي أن مما يساعد على تخفيف حدة التضخم مراقبة نوع النفقات الحكومية بالتركيز على النفقات الاستثمارية وترشيد النفقات الجارية والاستهلاكية، فضلا عن ضرورة المراقبة اللصيقة لحجم عرض النقود بتعريفها الواسع ( النقود المتداولة والودائع الجارية والادخارية بالمصارف والودائع الأخرى من أشباه النقود) لتتناسب دائما مع حجم الإنتاج وعدد الصفقات في الاقتصاد. فالسيولة النقدية المفرطة التي تجري بين أيدي المتطفلين ترفع الأسعار إذا لم يقابلها إنتاج حقيقي. وبذلك يخرب هؤلاء الطفيليون الاقتصاد بسلوكهم، في حين أنهم أبعد فئات المجتمع اكتواء بنيران التضخم!
لا يصح أن يعاني الناس من ضياع مدخراتهم في كارثة سوق الأسهم، وقبلها من انتشار البطالة بين أبنائهم، فضلا عن معاناتهم من تواضع مستوى الخدمات الأساسية في التعليم والرعاية الصحية، ثم يصدمون أيضا بارتفاع الأسعار الذي يأكل البقية الباقية من قوتهم الشرائية! إن الناس تحب أوطانها وتخضع لأنظمتها، لكن قتل الحلم يقتل الأمل، وإن ضاع الأمل بين الناس فقدت الحياة معناها، وحينها يمكن أن نتوقع الأسوأ، لأن من لا يملك شيئا لا يخسر شيئا!