مواسم غازي القصيبي (1 من 2)
حينما كنتُ طالباً في المرحلة المتوسطة، بدأتُ أسمع للمرة الأولى عن غازي القصيبي، وكان وقتها وزيراً للصحة، ومدار حديث المجالس بما كان يقوم به من جولات وزيارات مفاجئة للمستشفيات والمراكز الطبية. كما كان القصيبي وقتها – ومازال- نجماً في سماء الصحافة السعودية، بتغطيتها أخباره ومتابعتها نشاطاته، إضافة إلى نشرها قصائده.
منذُ ذلك الحين، كانت لي علاقة ثقافية وطيدة مع غازي القصيبي، شعراً ونثراً، من خلال متابعة ما ينشره في الصحافة المحلية أولاً، ومن خلال مؤلفاته ثانياً. بدأت هذه العلاقة من خلال قراءتي وحفظي قصيدة شهيرة نشرها في صحيفة "الجزيرة"، ثم أتبعتها بعد فترة بقصيدة ثانية نشرتها "الجزيرة" أيضاً، وكانت في رثاء صديقه ورفيق دربه يوسف الحماد، رحمه الله، وغازي يُجيد الرثاء ويعشقه، ويبدو أن لمواسم الحزن التي حاصرته وألمّت به منذُ طفولته دورها في تغذية إبداعه في هذا الجانب.
في مكتبة المدرسة الثانوية، قرأتُ أول كتاب لغازي القصيبي، وكان عنوانه "التنمية وجهاً لوجه" ألحقته بكتاب "في رأيي المتواضع". وفي أحد هذين الكتابين قدّم لي المؤلف العزيز هدية لا تقدر بثمن، حينما ذكر في حديثه عن التنمية، أن العمالة الموجودة في مجتمعنا، ليسوا غزاةً ولا لصوصاً، ولم يدخلوا إلينا من خلال النافذة، بل نحن الذين ذهبنا إليهم واستقدمناهم، ليشاركوا معنا في البناء والتنمية، لذلك يجب احترامهم، وعدم بخسهم أشياءهم. ومنذ ذلك الحين، كانت نصيحة القصيبي تقف دائماً نُصب عينيّ في كل المواقف التي أتعامل فيها مع إخواننا من هؤلاء العمالة الوافدة.
التغيّر المهم، في هذه العلاقة بين الأديب الكبير وطالب المرحلة الثانوية، جاء حينما قرأتُ كتابه "قصائد أعجبتني". وقتها قلتُ لنفسي: طالما أن هذه القصائد أعجبت غازياً، فلم لا أحفظها كلها، وأُعجبُ بها؟! وبالفعل حفظتها جميعها، وكانت قصائد منوعة انتقاها القصيبي بعناية فائقة من بين دُرر الشعر العربي، من رثائية مالك بن الريب التميمي لنفسه وهو يحتضر عند مشارف خراسان، وتوجّده فيها على الرمل والغضى النجدي، إلى أطلال إبراهيم ناجي، التي صدحت بها أم كلثوم، مروراً بقصيدة المتنبي، التي عاتب فيها سيده ومولاه، سيف الدولة الحمداني، حينما ساوى بينه وغيره من الشعراء، والتي ضمّنها المتنبي قراره الشهير بالرحيل، حينما احتضنت القفار رواحله، غرباً إلى مصر، وليس شرقاً إلى الخليج!
هذا الكتاب أدخلني إلى عالَم القصيبي الشعري، وهو عالَم طويل وعريض، اكتشفته حينما بدأتُ بتجميع دواوينه الشعرية، توّجتها بشراء المجموعة الشعرية الكاملة، قبل أن يصدح القصيبي بـ"فهدياته"!. والفهديات، من وجهة نظري، هي تلك القصائد التي أرسلها القصيبي طيلة ستة أشهر تقريباً، بدأها بقصيدته الرثائية في صدام حسين، حينما غزا الكويت، وختمها برائعته في رثاء الشاعر الكبير عمر أبوريشة، الذي صعدت روحه وفاضت إلى بارئها في مدينة الرياض، في الوقت نفسه، الذي كانت صواريخ صدام تهطل على الرياض! وما بين المرثيتين الرائعتين، انتظمت قصائد غراء، تفوحُ وطنيةً وإخلاصاً وحباً، كان من بين أشهرها قصيدته "أجل نحن الحجاز ونحن نجدُ"!
في تلك الأزمة، كان القصيبي العلَم الثقافي العربي دون جدال، الذي تصدّى للغزو ومشايعيه، بالقصائد والمقالات، التي كان ينشرها في صحيفة "الشرق الأوسط" تحت عنوان "في عين العاصفة" أتبعها بسلسلة مؤلفاته، التي كان عنوانها "حتى لا تكون فتنة" التي ردّ فيها على عدد من رموز الصحوة السعوديين، الذين اتخذوا موقفاً مضاداً لموقف المؤسسة الدينية الرسمية، من خلال حرب "الكاسيت". وستظل مقالات القصيبي وكتبه تلك وثيقة تاريخية مهمة ضمن وثائق تاريخنا الثقافي، الذي لم يكتب بعد!