هذا التدفق الهائل للثروة بحاجة إلى المزيد من الشكر والانضباط

وأنا أتأمل هذه النعمة التي حبانا الله بها، حيث يتدفق ما يزيد على عشرة ملايين برميل من البترول يوميا، وما يفرزه ذلك من زخم هائل من المشروعات وتزايد في الإنفاق الحكومي بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ المملكة، وما يصاحب ذلك من ظروف تنوء بالشكوى أحيانا من بلوغ إمكاناتنا وطاقاتنا الاستيعابية، في البناء والتنمية، وعلى كل المستويات، حد التخمة التي تستدعي من المرء، عندما يصاب بها، أن يتوقف، أو يخفف، من التهام المزيد من الطعام، حتى يمكنه تصريف ما اختزنه، قبل أن تتحول التخمة إلى سقم قد يورثه فقد الشهية والاستمتاع، ناهيك عن الانتفاع..!
أتأمل هذا، وأربطه بظروف صعبة خلت، أتذكر منها ما كان قبل اكتشاف هذه النعمة، عندما كان سكان هذه البلاد يصارعون ظروف الزمن بحثا عن لقمة العيش التي قد تكون محصولا زراعيا زهيدا يلتهمه الديّانة (المقرضون) مقابل ما استدانه صاحبه لكي يقتات أثناء العام، أو تلتهمه سنين الجفاف والقحط، التي كانت تمر على هذه البلاد، ويضطر الناس فيها إلى الاقتيات مما لا يؤكل في الظروف العادية، كالحيوانات النافقة، والجلود، وحتى القطط..! أما الجراد فكان الناس يتباشرون به عندما يأتي، ويخرجون مع عائلاتهم لجمعه واصطياده، ولا يعودون إلا وأيديهم تقطر دما من وخزات الأشواك والحجارة، ويتحملون هذا مضطرين لما يجدونه فيه من منقذ لهم من احتمالات الموت جوعا، وتدفعهم الحاجة إلى تخزين ما يفيض منه لأيام أشد قسوة، حتى أطرافه وريشه لا يلقى منها شيء..! يحدث هذا رغم ما كان يورثه لهم الجراد ذاته من هلاك وقحط أشد، عندما يقضي على حقولهم المتهالكة أساسا، بيد أنهم كانوا يحاولون أكله قبل أن يأكلهم.
نعم، لقد عايشت وأقراني وغيرنا كثير، ممن لا يزالون بيننا شيئا من هذا وهو عهد ليس ببعيد بحساب الأمم والعصور.
ومن الظروف الأخرى القاسية التي عاشتها المملكة ما كان قريبا في عهد الثمانينيات، عندما كان البترول ألعوبة في يد الغرب، يتحكم فيه ويستمتع به أكثر ممن يملكه، ويقف الكل، بمن فيهم (أوبك) مكتوفي الأيدي والألسن، أمام تراجع الأسعار، إلى حد الشعور بالظلم والغبن، في وقت كادت فيه عجلة التنمية في المملكة أن تتوقف في بداياتها نتيجة شح الموارد لو لا بعض ما تجمع في حساب الاحتياطي النقدي للميزانية خلال سنوات سابقة ابتداء من عام 1386/1387هـ، حيث بلغ في أوج ذروته عام 1402/1403هـ، ما يقارب 300 مليار ريال، وكان يمكن لهذا الاحتياطي، الذي كان يدر دخلا إضافيا، نتيجة استثماره، أن يكفي لمواجهة بعض النفقات الجبرية الطارئة، التي ترتبت لمواجهة حرب الخليج عام 1990، وما تلاها، لو لا أننا كنا قد استنفدناه قبلها بالكامل، خلال بضع سنوات فقط، لتمويل العجز في الميزانية، الذي حصل بسبب هبوط أسعار البترول، وانحسار الدخل، الذي بدأ مع عام 1403/1404هـ، وبلغ أوجه عام 1407/1408هـ، حيث بلغ مقدار العجز 76 مليار ريال، أو ما كان يعادل كامل إيرادات الدولة عام 1406/1407هـ. حدث هذا رغم أن مفهوم الاحتياطي ينبئ عنه اسمه، وهو ألا يتم اللجوء إليه إلا في ظروف استثنائية لا قبل للدولة بها، كظروف حرب الخليج التي داهمتنا بعد ذلك، دون أن نفكر في حدوثها، ولم نجد لمواجهتها غير اللجوء، وبتوسع، للاقتراض، حتى أن حجم الديون وصل إلى أرقام ونسب تتضاءل أمامها الهوامش المتعارف عليها..!
أتذكر هذا جيدا، وأتخيله أمامي، من واقع ما علق بالذاكرة من أصداء عملي السابق في وزارة المالية، بل وأكثر منه، عندما كانت مدفوعات الحكومة (أو الدفع) تُرجأ إلى ما يزيد على ستة أشهر، ولا يجد أصحاب الحقوق غير أبواب المسؤولين في وزارة المالية، يتدافعون فيها لعلهم يجدون متنفسا أو أملا، ولسان حالهم يردد مع الشاعر:

ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجعُ

وكان سلاحنا المتوافر هو المواساة، ومبادلة الشكوى بمثلها!..
أردت من إيراد ما ذكرت، أن أذكّر بما كانت عليه الحال، وبما أصبحنا فيه من حال، وأنا أرى هذا التدفق الهائل للثروة في الوقت الحاضر، والتوزيع السخي لفوائض الميزانية والتوسع الهائل في المشروعات، وفي الإنفاق الحكومي، وما يصاحب ذلك غالبا من بروز مظاهر الإسراف والبذخ، وعدم التدقيق عند الصرف، والتهاون وعدم الحرص في المتابعة وانحسار درجة الاهتمام بالمحافظة على المال العام، وهو ما بدأت ملامحه تظهر في كثير من الممارسات، فضلا عما يورثه الاندفاع من ارتفاع في تكاليف تنفيذ المشروعات، وهو ما يكلف خزانة الدولة أضعاف ما تتكلفه في الظروف العادية، إلى جانب ما يسببه الاندفاع والسرعة في تنفيذ المشروعات من تجاوزات، وندرة في بعض المواد، وارتفاع في أسعارها، كما هو حاصل الآن، وهو ما بدأ يعاني منه المواطن ويكتوي بناره..!
والخلاصة أننا لسنا مضطرين إلى هذا التسارع المحموم في الإنفاق، خاصة ونحن نعلم ما يجلبه من سلبيات عديدة، منها ما ذكرته آنفا، ومنها أن التعوّد على نمط معين من المصروفات يجعل من الصعب التراجع عنه فيما لو تراجع الدخل، وهو أمر محتمل كما حدث سابقا، في ظل ظروف يفرضها اعتمادنا على مصدر وحيد للدخل، وهو البترول، الذي لا نملك وحدنا السيطرة عليه، لا تسعيرا ولا إنتاجا..! وعلينا التفكير مليا في عواقب الأمور، ومقبلات الأيام والعصور، وما قد تحمله الرياح القادمة من أتربة وعواصف.
وعندي للحديث بقية.. والله من وراء القصد

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي