المثقفون العرب.. و"موضة الليبرالية"
هل الانتماءات الأيديولوجية تورث أصحابها مرضا عضالا فما يشفون منه مهما تقدمت بهم السنون ومهما تغيرت أحوال البلدان والإنسان ومهما استجد من أحداث واختلفت الظروف؟
هذا سؤال ملحاح يبزغ في ذهني في كل لحظة أشاهد فيها حوارا متلفزا بين مفكرين ومثقفين عرب عرفوا بانتماءاتهم الحزبية أو الفكرية والعقائدية ردحا من الزمن قبل أن ينقلب العالم رأسا على عقب ويتدحرج من جنب إلى جنب بعد الأحداث المدوية التي لسعت بحد السكين وشواظ النار عصب العرب منذ هزيمة حزيران (يونيو) 1967، مرورا بانهيار المنظومة الشيوعية وانتهاء بصواعق العمليات الإرهابية، خصوصا كارثة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر).
بل هو سؤال لا يبارحني في كل مرة أقرأ فيها مقالا أو يجمعني مجلس بمثقف أو كاتب كان ذات حين من أهل اليسار والمترعين بنشيد الأممية أو من أهل الطبل والزمر في الزفات البعثية أو الناصرية، أو السابحين في خيلاء الطهارة القومية العربية المترنمة بتنظيرات المفكرين الكبيرين ساطع الحصري وزكي الأرسوزي وأمثالهما والمزايدين عليهما بالحماس والنشوة، أو الناجين من محنة التفكير.
يذهلني كثيرا أن النقاش أو الحوار أو الكتابة تتوشح بالرصانة والهدوء واحترام الرأي الآخر وسعة الأفق في البدايات، لكن سرعان ما ينحسر ذلك عن حنين معتق مستقر في قاع وجدان هذا المثقف أو ذاك الكاتب وتبدأ عمليات نسف جسور التواصل وزرع أصابع الديناميت دون هوادة في قطار الحوار للإجهاز على مواقف الآخرين وتسفيه آرائهم باستعمال ذات النعوت والنعرات والوصمات الجاهزة التي كانت تعج بها صفحات جرائد ومجلات الغلو الأيديولوجي وسطور بيانات الشجب والاستنكار الحزبية وبلاغات الانقلابات العسكرية وعرائض التشهير بالمنشقين الرجعيين، عملاء الإمبريالية والاستعمار وغيرها من بضائع "الردح" الغابر البغيض!!
لقد وجد بعض المثقفين العرب أنفسهم بعد إفلاس المشروع القومي، وتهافت أحلام الأممية وصيحات الرفاقية ومزاعم الأحزاب الأخرى كالقومي السوري والنجادة والكتائب وغيرها من فزاعات الحرية والاشتراكية والدستورية والاستقلال، سواء في المغرب العربي أو مشرقه.. وجدوا أنفسهم تائهين في خواء اللامعنى، فقد تكشف الزبد عن جفاء.. فهاموا على وجوههم يتخبطون في فضاء مكدس بالضباب والعتمة، تعذرت على معظمهم الرؤية وفقدوا الاتجاه غير أنهم وجدوا في النشيد المتعالي لليبرالية منقذا من الضلال وسترة واقية من رصاص هجمات التشفي والثأر التي استأسد بها عليهم الأصوليون والتكفيريون.
بدت الليبرالية لهم أشبه بطوق نجاة لحفظ مياه الوجوه للسباحة في بحر اللامعنى.
وهكذا تم تحت ضغط الأحداث والمستجدات المذهلة التوافق أو التواطؤ على تغيير الجلود واكتشف الجميع "أن لا أحد أحسن من أحد" وأن هذا موقف أملاه عليهم "فقه الضرورة". وهذا في الواقع تبرير صحيح إنما المعضلة أن المثقفين العرب بدلا من أن يبنوا على هذه الضرورة ويعيدوا عقلنة مواقفهم انطلاقا من ذلك القاسم المشترك وتطوير ذلك التوافق أو التواطؤ مع الليبرالية إلى تواصل وتفاعل مع المتغيرات الكونية، خصوصا عالمهم العربي فإنهم لم يستطيعوا الفكاك من أمراضهم الأيديولوجية، بل نذروا أنفسهم للسباحة في بحيرة الحنين إليها حالمين بماض تستحيل عودته لأنه ببساطة أصبح في رماد العدم.
الأحداث الراهنة في العراق وفي لبنان وفي السودان والعرضات الانتخابية الديكورية في حواضر العرب اليوم تشير إلى أن اللامعنى مازال يأخذ بخناق المثقف العربي وإلى أن وشاح الليبرالية الذي لاذ إليه هذا المثقف لم يستر عريه بقدر ما فضح خواء روحه من المعنى وواجهه، بل أحرجه انتهازيته المداهنة المخجلة، وهو ما يفضحه، الجدال أو العراك الفضائي والخطب والمقالات ومواقع الإنترنت فكلها تكاد تبعث رسالة واحدة، وإن كانت بروائح متعددة. الرسالة مفادها أن الليبرالية أضيق من أن تتسع لطموحاتهم الثورية (ربما مؤنث كلمة ثور!!) وأزهد قيمة من معتقداتهم السابقة. أما الروائح فذات الروائح الفاسدة المنتمية إلى عالم ما قبل (أمجاد يا عرب أمجاد) وما قبل تحطيم جدار برلين.
ولأن الأمر كذلك، وهو كذلك بالفعل، فسيظل هؤلاء المستنفرون أنفسهم إلى ركوب "موضة الليبرالية" تنطبق على وصفهم الآية القرآنية الكريمة "تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى" فيما العكس هو الصحيح بالنسبة للفئات الأصولية والتكفيرية والمتعاطفين معهم في كل قارات العالم، خصوصا عالمنا العربي المنكوب بهم المفجوع بمثقفيه!