المحاسبة والمراجعة بين الواقع والاعتقادات الخاطئة
تعيش مهنة المحاسبة والمراجعة عالميا أزمة ثقة حقيقية مردها بشكل رئيس إلى وجود هوة كبيرة بين واقع منتجاتها وتوقعات المستفيدين من تلك المنتجات، فيعتقد كثير من مستخدمي القوائم المالية أنها دوما صحيحة وخالية تماما من الغش والخطأ والتلاعب ما دامت تمت مراجعتها من قبل محاسب قانوني معتمد، ويلام المختصون مباشرة ودون تمحيص عند اكتشاف مثل هذه التجاوزات أكثر من لوم مرتكبيها سواء بقصد أو بدونه، بينما واقع حال المهنة يختلف تماما عن مثل هذه الاعتقادات؛ ومما زاد أزمة الثقة هذه الحملة الإعلامية الشرسة على المهنة بعد انهيار كبريات الشركات العالمية لكونها الحلقة الأضعف في إنتاج تلك القوائم.
ولمحاولة تقليص فجوة سوء الفهم بين ما يقوم به المحاسبون والمراجعون وبين ما يعتقده المستفيد من منتجات المحاسبة يمكن تسليط الضوء على الأساسيات الآتية:
* يعتقد كثيرون أن المراجع القانوني المسؤول عن إعداد القوائم المالية، وهذا اعتقاد خاطئ، فهذه مهمة الإدارة قانونا. ولا يجوز الجمع بين مهمة إعداد القوائم المالية ومراجعتها وإلا فقد المراجع استقلاله.
* يعتقد الكثيرون أيضا أن جميع الأرقام في القوائم المالية صحيحة 100 في المائة، وهذا اعتقاد خاطئ يتنافى مع أساسيات علم المحاسبة، فالمحاسبة أساسا تعتمد على قياس الأحداث المالية (أي ترجمتها إلى لغة الأرقام) لوحدة محاسبية مستمرة وإيصال نتائج القياس للمستفيدين. وعلى الرغم من المحاولات الجادة خلال المائة سنة الماضية للارتقاء بالقياس المحاسبي إلى مستوى العلمية، إلا أن جلها باء بالفشل؛ ومرد ذلك أن القياس المحاسبي يعتمد أساسا على فرضيات تنعكس في شكل معايير محاسبية، يستشف منها ما يعرف بالسياسات المحاسبية، فكلما عدلت السياسات المحاسبية اختلفت معها نتائج القياس المحاسبي، وبالتالي اختلفت معها الأرقام الظاهرة في القوائم المالية وإيضاحاتها، فتعديل سياسة محاسبية محددة يتيح معه تعديل لعناصر القوائم المالية وقد ينعكس أثره على صافي أرباح الوحدة المحاسبية؛ وبناء على ذلك فليس هناك أرقام محاسبية صحيحة 100 في المائة، وإنما هناك أرقام عادلة بناء على السياسة المحاسبية المعتمدة؛ هذه حقيقة الأرقام المحاسبية التي يقرأها المستفيد، فهي مرتبطة بالدرجة الأولى بتلك السياسات. ولذلك فإن دور المحاسب هو اختيار السياسة المحاسبية التي يمكن على أساسها قياس الحدث المالي، ولضمان عدم التلاعب في تلك السياسات تتطلب المهنة ضرورة الاستمرار في إتباعها والإفصاح التام عن أي تعديل يطرأ عليها مع تحديد أسباب ذلك وتأثيراته.
* لا يوجد في أي وحدة محاسبية في أي زمان أو مكان نظام رقابة يمنع 100 في المائة الخطأ والغش والتلاعب، وإنما هناك نظام رقابة قوي يقلل من احتمال وقوع الخطأ والغش والتلاعب، وللقياس فإن وجود نظام قوي للتفتيش الجمركي لا يستطيع بأية حال من الأحوال منع حالات التهريب وإنما يقلل من وقوعها؛ ويعني ذلك أن الاستثمار في بناء نظام رقابة داخلية فعال يقلل من احتمال وقوع مثل هذه التجاوزات ولكن لا يستطيع منعها البتة؛ وأنه كلما ضعف نظام الرقابة الداخلية فإن احتمالات وقوع التجاوزات تزداد تباعا.
* الهدف الأساسي لمهنة المراجعة زيادة ثقة المستفيد بالقوائم المالية وذلك بإعطاء رأي مهني مستقل عن عدالة القوائم المالية حسب معايير المحاسبة المتعارف عليها، ولا يعني هذا التقرير البتة أن المراجع يضمن 100 في المائة عدم وجود تجاوزات في القوائم المالية، ومسؤوليته محددة باتباعه المعايير المهنية، فشهادته ليست بصدق تلك القوائم وإنما عدالتها حسب ما تقتضيه معايير المهنة؛ وذلك يرجع بشكل أساسي إلى أن المجتمع لا يعطي المراجع الوقت ولا المال ليقوم بفحص كامل ودقيق لجميع الأحداث المالية، وحتى لو أعطي مثل هذه الإمكانيات فلا يستطيع أي مهني أن يضمن 100 في المائة أن القوائم المالية صحيحة، لكونه مراجع مخرجات أساسا معتمدة على فرضيات.
* توجد علاقة مباشرة بين عدالة القوائم المحاسبية وبين تكامل معايير المهنية في أي مجتمع، فكلما تطورت المهنة تشريعا وتطبيقا ورقابة عز معه الثقة في القوائم المالية، ويتساءل البعض عن التجاوزات التي حصلت في بعض الشركات الأمريكية خلال العامين الماضيين على الرغم من الرقي الهائل في تنظيم المهنة، والجواب بديهي في ظل الحقائق السابقة، فلا يوجد نظام محاسبي مهما وضع من أنظمة رقابية حوله يستطيع منع الأشرار من تجاوزه؛ هذا لا يعني أنه لا يوجد خلل في هيكلة المهنة، ولكن تظل الحقيقة دائما أن هناك احتمالا بوقوع حالات غش وخطأ وتلاعب مهما كانت قوة الأنظمة والمعايير المهنية، المهم أن يتم كشفها ومعاقبة مرتكبها.
مثل هذه الاعتقادات وغيرها زادت الفجوة بين المهنيين ومستخدمي القوائم المالية، وأعتقد أن توضيحها للعامة محاولة لتقليص الفارق بين ما يعتقده المستفيدون وبين واقع الحال، هذا لا يعني البتة أن هناك أخطاء مهنية سواء من منظميها أو ممتهنيها زادت هذه الهوة اتساعا والله اعلم.