عندما بدأ مشوار الإنسان في هذه الحياة كان محاطا بالجنة, فالطبيعة لم تبخل عليه بأي شيء, فثمار النباتات تتدلى بين يديه ليختار من أطايبها ما يريد والحيوانات ترمي بنفسها طائعة مستسلمة لينحر منها ما يرضيه ويأكل من لحمها ويشرب من مرقها ما يشتهيه. وأما الماء الجاري فيحرك من حوله الحياة, لم يكن الإنسان بحاجة إلى أن يحرك قواه ويشغل فكره ويبذل جهده للحصول على ما يريد. ولكن عندما طلب من الإنسان أن ينزل من جنته ويمارس دوره خليفة لله في هذه الأرض ومن أجل أن يبني حضارته بنفسه وبجهده مستفيدا مما أعطاه الله من قدرات وحباه من نعم، بدأت مسيرة فعل الإنسان في بناء حضارته وجنته التي يريدها وكانت له الحرية في أن يختار الطريق الذي يريد من دون أن تبخل عليه السماء برسل وكتب هداية تبين له العلامات والآيات التي يجب أن يسترشد بها في بحثه عن الطريق المستقيم الذي يوصله إلى الجنة الدائمة والباقية له مدى الدهر. وعندما قبل الإنسان هذه الأمانة ورضي بتحمل مسؤولية بناء الحضارة على هذه الأرض أدرك أنه في حاجة إلى طاقة يستمد منها القوة في البناء والتعمير ومن أجل أن يمارس دوره في بناء الحضارة, وعندها صار يبحث عن مصادر للطاقة التي هو في حاجة إليها. في البداية التفت إلى نفسه فوجد عنده جسما فيه من الرافعات والعجلات التي تحركها طاقة بدنية تعينه على نقل الأشياء وتحريكها ولكنها كانت تضعف باستمرار مع تزايد حاجاته ولم تكن بالقوة التي تفعل فعلها في هذه الأشياء وعندها تناول الحجر وأخذ يضرب به ويكسر به وكان مصدره الأول للطاقة وبه بدأت حضارة العصر الحجري. وبعد ذلك توالت العصور وبناء الحضارات, فكانت حضارة الزراعة وذلك عندما أدرك الإنسان أن قشرة الأرض عندها القدرة والطاقة على أن تجعل من البذرة التي ترمى لها لتحتضنها بترابها شجرة مثمرة. وعندما ازدادت حاجات الإنسان بفعل ما تراكمت عنده من خبرات وتطلعات, وعندما وجد الإنسان نفسه وهو أمام وفرة من الأشياء التي تفيض بها الطبيعة جاءت مرحلة التصنيع وإنتاج مواد ومنتجات جديدة وصار البحث عن طاقة يحرك بها أدواته ويشغل بها مكائنه هو شغله الشاغل, فمرة جرب الإنسان الماء كمصدر للطاقة ومرة أخرى جرب الهواء ومرة البخار. وبعد أن جرب الإنسان ما هو ظاهر من قواه البدنية ومن ثم استخدم هذه القوى في استثمار ما على الأرض من نعم وخيرات من صيد وزراعة وتصنيع محدود لكي يبني حضارته التي أخذت أطوارا متعددة, بدأ فضول الإنسان يتجه بعيدا وأخذ يبحث في باطن الأرض ليكتشف ما في داخلها من كنوز ولم تخيب الأرض طموح الإنسان فأنعمت عليه بالكثير من الموارد الطبيعية ومنها بالطبع ما هو أغلاها وهو البترول هذا الذهب الأسود الذي قفز بحياة الإنسان إلى أبعاد جديدة وآفاق أرحب وحضارة أرقى, وكلما أفاضت الأرض والبحار من كنوزها ونعمها على الإنسان انتاب الإنسان قدر من الشعور بالغرور وصار يطلب المزيد من هذه النعم ويتمادى في إرهاق هذه المصادر الطبيعية ظنا منه أن هذه الأرض وما فيها قد خلقت لتمده بما يريد وبلا حدود وتستقبل فضلاته ومخلفاته بلا حدود, وعندما جاءت المشاكل البيئية بصورها المختلفة ولاحت المخاطر التي تنذر بنفاذ هذه المصادر الطبيعية بدأ الإنسان أكثر اقتناعا وتقبلا لفكرة الترشيد وضرورة إعادة النظر في نظرته للبيئة التي يعيش فيها وللكائنات التي تشاركه هذا الوجود وتتقاسم معه مكنونات هذه الأرض وما فيها وما حولها. وفي مواجهة هذا التحدي الصعب بدأ الإنسان يفكر ويبحث عن البدائل المتاحة أمامه لكي يستمر في دوره الحضاري وممارسة خلافته لله على هذه الأرض. وبعد كل التجارب التي مر بها الإنسان أدرك أنه في حاجة إلى مصدر طاقة دائم يؤسس عليه حضارة مستدامة وشاملة لكل نواحي الحياة, وهنا ارتد الإنسان ببصره إلى نفسه وإلى ما يحويه داخله من قدرات وكنوز, وفي الأول اكتشف العقل واستطاع أن يبدأ حضارة علمية وفكرية نحن الآن نعيش في بداياتها والمستقبل يبشر بفتوحات فكرية وعلمية يعجز حتى الخيال عن تصورها ورسم ملامحها. والى جانب العقل بدأ إنسان اليوم يقترب من عالم النفس ليتعرف على ما تحتويه من طاقة لا متناهية وستشكل إلى جانب الطاقة العقلية والفكرية مصدر الطاقة للحضارة المقبلة وهي حضارة الإنسان بفكره وعقله وعواطفه وقلبه. لقد بدأ يكتشف الإنسان أن ما في داخله من طاقة وما ينطوي عليه من كنوز هي التي ستمده بطاقة متجددة ستفتح له آفاقا جديدة وغير معهودة وسيتمكن بعقله وفكره وروحه أن يوظف مكامن هذا الكون دعما لبناء حضارته الجديدة. سيتمكن الإنسان بفكره أن ينتزع الطاقة من مصادر لا تنضب مثل الشمس والبحار والرياح وقد يذهب بعيدا في الكون بحثا عن مصادر هي أكبر مما عنده وأوفر مما لديه من مصادر على هذه الأرض. وبفضل التقاء عقله وروحه وتقارب قواه الفكرية مع قواه النفسية سيستطيع الإنسان أن ينتج وأن يبدع وأن يكتشف وأن يتعرف على الكثير من أسرار هذا الكون وبالتالي يزداد قدرة ويزداد تمكنا وتأتي حضارته على مستوى هذا الإبداع وهذا الإنتاج وهذه القدرة والطاقة العظيمة التي تولدت من زواج والتقاء هذين العظيمين المباركين وهما العقل والروح. ولكن هل فعلا ستتمكن كل أمة من المساهمة في بناء هذه الحضارة أم أن بعض الأمم والشعوب وبفعل عقول ناسها الميتة وأرواحها المكبلة ونفوسها المعطلة ستكون غائبة عن هذه المسيرة الحضارية ولن يكون لها نصيب ويد في بنائها وقيامها. فلا بد للأمم من أن تشمر عن مساعديها من أجل الإعداد لمثل هذه المساهمة وهذه الانطلاقة الإنسانية, ومن بين الكثير من الأمور الواجب توافرها تأتي ثلاثة منها لتشكل مثلثا لهذا النهوض والبناء الحضاري, وهذه الأمور الثلاثة باختصار:
1- الاهتمام بالإنسان كإنسان: لا يمكن للإنسان أن ينطلق بفكره وروحه إن لم نتعامل معه كإنسان له من الحقوق الأساسية التي يجب أن تحفظ له تدوينا وتفعيلا وفكرا وممارسة. مع الأسف فإن الكثير منا لا يفهم هذا الاهتمام العالمي بحقوق الإنسان إلا على أنه جزء من الماكينة الإعلامية للحضارة الغربية وعلى أنها إحدى وسائل الغرب التي يريد أن يستخدمها هذا الغرب لاختراق ثقافتنا والمساس بهويتنا الحضارية. إن اهتمامهم بالإنسان وبحقوقه هو جزء من إيمانهم بأن الإنسان المظلوم والمنتقص من حقوقه لا يمتلك القدرة الفكرية ولا القابلية الذهنية ولا المناخ النفسي والعاطفي لأن يكون مصدر طاقة متجدد ومستدام لبناء حضارة الغد. صحيح أن هناك توظيفا سياسيا لمثل هذه الدعوات ولكن علينا ألا يستفزنا مثل هذا التوظيف والوقوع في حالة من التشنج في التعامل مع قضايا حقوق الإنسان. وحسنا فعلت المملكة بتأسيس أكثر من لجنة للاهتمام بقضايا حقوق الإنسان، وعلى هذه اللجان أن تولي مسألة التوعية بالحقوق اهتماما خاصا هذا إضافة إلى مساعيها بإيجاد قاعدة تشريعية لتضمن مثل هذه الحقوق في ممارساتنا وتؤسس لها في تنظيمات الدولة المناخ الذي يضمن بقاءها وديمومتها.
2 - التعليم: إن ما تبشر به الحضارة المقبلة هو أن المعرفة بالتحديد هي التي ستكون طاقة المستقبل وهي التي ستحرك عجلة الحضارة الجديدة, وما الدعوة التي نسمعها كثيرا عن ضرورة بناء مجتمع المعرفة إلا هو من باب التأكيد على ضرورة إعداد المجتمع معرفيا حتى يتسنى أن تكون المعرفة هي الطاقة المحركة للمجتمع. وبما أن التعليم هو البوابة التي يدخل منها المجتمع إلى عالم المعرفة فإن إعادة هيكلة التعليم وإعادة إنتاج مفهوم التعليم الأولي والعالي في إطار فلسفة جديدة هو ضرورة لبناء مجتمع المعرفة. لكي تنطلق الطاقة المختزنة في عقل الإنسان وفكره لا بد من أن يصاغ هذا العقل بطريقة تمكنه من إنتاج العلوم والمعارف. لا يمكن للعقل أن يكون مصدرا للمعرفة وهي طاقة المستقبل من دون أن يمتلك العقل المهارات الفكرية من قبيل البحث والتحليل والاستنباط، وعلى المؤسسات التعليمية أن تجعل من نفسها المكان والفضاء الذي يتلقى فيه الطالب التدريب المطلوب لاكتساب مثل هذه المهارات. لا يمكن أن ننتج عقولا مفكرة ومبدعة ونحن نؤسس جامعاتنا على أسس تجعل منها مؤسسات تستهلك ما ينتجه الآخرون من معارف وليس مؤسسات منتجة أو مشاركة في إنتاج هذه العلوم والمعارف.
3- الإدارة الإنسانية: إذا كنا نؤمن بأن الإنسان يختزن ثلاثة مصادر رئيسية للطاقة وهي الطاقة البدنية والفكرية والروحية وأننا نريد أن نستثمر ونوظف هذه الطاقة الفكرية الضخمة التي لم يستطع الإنسان بعد كل هذا المشوار الطويل من وجوده على هذه الأرض أن يستثمر إلا مقدار ضئيل جدا منها, وإضافة إلى الطاقة الفكرية فإننا أيضا نريد أن نستثمر هذا المخزون اللامتناهي من طاقته الروحية فإننا في حاجة إلى أن ندير هذا الإنسان ونتعامل مع قضاياه بطريقة إنسانية. لا يمكن لنا أن نحرك فكره وروحه من دون أن نكتسب رضاه, ولا يمكن أن نفجر هذه الطاقة التي لا يدانيها أي شكل من أشكال الطاقة ونحن لا نشركه في التخطيط والمناقشة واتخاذ القرار. إن الإدارة الإنسانية وهي البديل المستقبلي لكل أشكال الإدارة الحالية ستهتم أكثر من أي شيء آخر بإعداد بيئة عمل يجد فيها الإنسان العامل كل مقومات التحفيز والدعم لاستثمار طاقاته ومهاراته.
وفي الختام يمكن القول إن حضارة المعرفة هي حضارة قادمة إلينا لا محالة وإنها قادمة إلينا بسرعة وإن الأمم في مشارق الأرض ومغاربها هي الآن مشغولة بإصلاح تعليمها وتطوير إداراتها لجعلها أكثر إنسانية والارتقاء بثقافتها لكي يكون محورها ومحل اهتمامها هو الإنسان والبيئة التي يعيش فيها. فالعالم يشهد الآن بداية عودة الإنسان إلى نفسه بعد أن تيقن أن ما في داخله من طاقات وكنوز هي أضخم وأثمن وأدوم مما هو موجود في باطن الأرض من مصادر طاقة وموارد طبيعية. علينا أن نهتم بالإنسان أولا وألا نبخل في الاستثمار فيه وفي تطوير طاقاته الفكرية والروحية لأن إنتاج وعطاء هذا الإنسان هو الذي سيحدد من نحن في المستقبل, فالجميع سينطلق بالإنسان ومن الإنسان للمشاركة في بناء حضارة الغد والخوف أننا ونحن نمتلك هذا الكم الكبير من الإنسان العددي والإنسان الروحي, سنبقى ننظر إلى شبابنا وأبنائنا على أنهم مشكلة بطالة وتعليم وإسكان وتربية وربما يصل بنا حد التضايق منهم إلى اعتبارهم أزمة في وجوهنا وعائقا في طريق تنميتنا ولا ننظر إليهم على أنهم الأمل والطاقة التي ستنير مستقبلنا، ورأس المال الذي سنشارك به الدول الأخرى في بناء حضارتنا حضارة الإنسان.
