تحدثت في اللقاء الماضي عن بناء المساجد على القبور وخطره وأنه وسيلة إلى الشرك وهو عبادة صاحب القبر، ولا يجوز أيضا أن تقصد القبور للصلاة عندها وهذا من اتخاذها مساجد لأن العلة من اتخاذها مساجد موجودة في الصلاة عندها، فلو فرض أن رجلا يذهب إلى المقبرة ويصلي عند قبر ولي من الأولياء - على زعمه - لصدق فيه أنه اتخذ هذا القبر مسجدا أو أنه مستحق لما استحقه اليهود والنصارى من اللعنة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم": "الدعاء عند القبور وغيرها من الأماكن ينقسم إلى نوعين: أحدهما أن يحصل الدعاء في البقعة بحكم الاتفاق لا لقصد الدعاء فيها كما يدعو الله في طريقه ويتفق أن يمر بالقبور أو من يزورها فيسلم عليها ويسأل الله العافية له وللموتى كما جاءت به السنة، فهذا ونحوه لا بأس به. الثاني: أن يتحرى الدعاء عندها بحيث يستشعر أن الدعاء هناك حري بالإجابة فهذا النوع منهي عنه إما نهي تحريم أو تنزيه وهو إلى التحريم أقرب. فإن الرجل لو كان يدعو الله ومر في طريقه بصنم، أو صليب أو كان يدعو في بقعة وكان هناك بقعة فيها صليب وهو عنه ذاهل، أو دخل إلى كنيسة ليبيت فيها مبيتا جائزا ودعا الله في الليل لم يكن بهذا بأس ولو تحرى الدعاء عند صنم أو صليب أو كنيسة يرجو الإجابة بالدعاء في تلك البقعة لكان هذا من العظائم بل لو قصد بيتا أو حانوتا في السوق أو بعض عواميد الطرقات يدعو عندها يرجوا الإجابة لكان هذا من المنكرات المحرمة إذ ليس للدعاء عندها فضل، فقصد القبور للدعاء عندها من هذا الباب بل هو أشد لأن النبي نهى عن اتخاذها مساجد وعن اتخاذها عيدا وعن الصلاة عندها بخلاف كثير من المواضع" أ.هـ. روى الإمام أحمد وغيره بسند جيد عن ابن مسعود مرفوعا: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين اتخذوا القبور مساجد".
من الناس من يشكل عليه وضع قبر النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت الحالي إذ هو في المسجد النبوي، وأصل الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم في بيته في غرفة عائشة إذ اتفق الصحابة على أن يدفن صلى الله عليه وسلم في بيته بعد تشاورهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم "ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض" وأما الوضع الحالي لقبر النبي صلى الله عليه وسلم فبيانه من عدة أوجه:
الأول: أن المسجد لم يبن على القبر بل بني المسجد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن النبي لم يدفن في المسجد حتى يقال إن هذا من دفن الصالحين في المسجد وإنه حلال بل دفن في بيته.
الثالث: أن إدخال بيوت النبي ومنها بيت عائشة في المسجد ليس باتفاق مع الصحابة بل بعد أن انقرض أكثرهم ولم يبق منهم إلا القليل وذلك عام 94هـ تقريبا فليس مما أجازه الصحابة أو أجمعوا عليه مع أن بعضهم خالف في ذلك وممن خالف سعيد ابن المسيب فلم يرض بهذا العمل.
الرابع: أن القبر ليس في المسجد حتى بعد إدخاله لأنه في حجرة مستقلة عن المسجد فليس المسجد مبنيا عليه ولهذا جعل هذا المكان محفوظا ومحاطا بثلاثة جدران وجعل الجدار في زاوية منحرفة عن القبلة أي مثلثاً والركن في الزاوية الشمالية بحث لا يستقبله الإنسان إذا صلى لأنه منحرف. فبهذا كله يزول الإشكال الذي يحتج به أهل القبور ويقولون هذا منذ عهد التابعين إلى اليوم.
