طلاب الجامعات.. يا زهور الصحراء!

[email protected]

*واقعة حقيقية رواها لي أستاذ محاضر في جامعة محلية مرموقة.
دخل الأستاذ على طلبته، وكانوا متجهمي الوجوه..
- ما بالكم، ما الذي يشغل عقولكم؟
واحد من الطلبة - هذا الذي يقال عن جامعاتنا يا أستاذ ونقرأه كل يوم، إنه يزيد إحباطنا؟
- وهل لي أن أعرف لماذا يزيد في إحباطكم؟
- كنا نتناقش هنا، قبل حضورك، ونقول إن الظروف تضغط علينا من كل جهة، فالمجتمع يحاربنا، ويعتقد أننا أصل كل بلاء، وها نحن عاكفون على صنع مستقبل نحلم به زاهٍ وناجح، ثم نرى جامعاتنا تتعثر بين الجامعات.. هل نحن إذن مُخرَجٌ رديء لمصنع رديء.
يجلس الأستاذ، ويتأمل في الوجوه اليانعة، وماء الشباب في وجوههم يرسل تلك الإضاءات الخفية، والإشارات المتتابعة من السعادة والحب، والأمل.. الكثير من الأمل. يضحك بعد أن قرر أن يكون هذا موضوع اليوم، ويقول وبسمة ٌفيها ألمٌ خفي تشرق متوارية على فمه:
- انظروا يا شباب. أنتم زهور هذا المجتمع، وزهور هذه الجامعة.. هل رأيتم الزهور في البساتين الخضراء بين الخمائل والجداول، كيف توشى البستان بحياة الألوان، ودفق الحياة الجميل.. لا أنتم أكثر من هذا..
- كيف يا أستاذ.. هل تزهر الصحراء؟
- صبرك علي، فقد سبقتني، فقد كنت الآن سأتطرق إلى الصحراء. لنفرض أنكم في صحراء، وهذه الصحراء هي المعطيات الأكاديمية هنا، فأنتم أفضل من زهور البستان الرخي بمائه وهوائه ومياهه.. أنتم أفضل من أمثالكم في الخارج المتفوق، والأكثر خضرة، والأرقى أكاديميا، فأنتم زهور الصحراء التي يضع الله فيها القوة الكامنة لتقهر جدب الصحراء، ولفح شمسها، وخواء أركانها.. ومع ذلك فهي تزهر وتبقى رغم كل ذلك، وعندما تخرج تكون لوحة من إبداعات اللوحات الطبيعية.. وهي تضمر في الصحراء، وتخرج نشطة، طازجة، مكتملة الرواء والجمال عند أول صبة مطر.. و..
- يا سلام يا أستاذ، كلام جميل، ويطرب القلوب.. ولكن ألا صعدت لعقولنا؟
- هه! بالضبط أن أصعد لعقولكم. هذا بالدقة التي أريد، أريد أن تعرفوا وتثقوا أن لكم عقولا مثل غيركم، وأن هذه العقول يتفاوت نشاطها بقدرة التحمل والتجاوب مع الظروف الصعبة، وإتقان لعبة أن الحاجة أم الاختراع، فالبطون الملآنة لا تتحايل على العيش بالابتكار وراء الابتكار، وإنما تنام وتخمل وتتجمد شمعا وشحما.. أنظروا إلى مراتب الشرف في هذه الجامعة.. كم واحد منكم وصل للوحة الشرف؟
.. رفع ربع الصف أياديهم؟
- أريتم يا شباب؟ في أيامنا وأيام أجيال قبلي كانت هذه اللوحة عسيرة المنال، ولا يصل إليها إلا من يكونون وكأنهم قادمون من عوالم أخرى، أو أن لهم أجنحة، أو أدمغة بحجم مختلف. لم تتغير مقاييس الجامعة في منحها درجة الشرف، وإن تغيرت إمكانياتها، ومستواها، ودقتها.. إلا أن الأحكام صامدة، والشروط بقيت صارمة أو ازدادت، ومع ذلك يا شباب تحققون ذلك وكأنه أمر عادي.. ألا ترون؟ إن طاقتكم العقلية متفجرة، وقّادة، وليس العيب فيكم إطلاقا، بل أنتم زينة الجامعة، أنتم موضع فخارها، أنتم من تعطونها رونقها.. لا تتوقعون الأفضل اليوم، ولا ربما غدا.. ولكن تأكدوا أن عقولكم ستعطيكم الأفضل اليوم وغدا، وبعد غد.. عقولكم لن تخذلكم، متى ارتكنتم إليها ووثقتم بها، وسرتم معها بطريق الجد والاجتهاد والثقة بأنكم زهور تنبت حتى بين الحجر..
.. أخذ الأستاذ نفسه قليلا، وجال بنظره على الوجوه النضرة، ورآهم منصتين بشغف، ويدور بالصف صخبٌ غير مسموع، صخبُ الاعتداد بالنفس، والحماسة تموج في القلوب اليانعة..
- هاه؟ صمتم
- نحن مصغون يا أستاذ.
- جميل.. ولكن هل تريدون أن تقتنعوا أكثر؟ كم تقبل جامعاتنا من الخريجين.. كم النسبة؟
- ربما خمسة، عشرة، عشرين في المائة من خريجي الثانويات؟
- وهل الذين لم تقبلهم الجامعات بسبب تدني معدلاتهم؟
- بالعكس يا أستاذ، صار طبيعيا أن ترى أعدادا غفيرة جدا بمعدل "ممتاز" ولكن لم تقبلهم الجامعات.
- بالضبط. النقطة التي أريد أن أصل إليها أن المدارس لم تتغير، والمناهج، ولا وسائل التعليم، بل ربما تعقدت مادة الدرس، وضعفت إمكانيات المدرسة، ومع ذلك فإنك من السهل أن تدخل أي مدرسة وتجد صفا كاملا كلهم بمعدل ممتاز.. أين العيب؟ لا أريدكم أن تجيبوا، لأن هذا سينقلنا لمواضيع أخرى ليست محببة إلى القلب.. ولكن هل نلوم التلاميذ؟
الفصل بصوت واحد: كلا!
- إذن بمن نفخر.. بالمدرسة أم بهؤلاء الصبية والفتيات الذين يحققون الدرجات كاملة وكأنها من عاديات الحياة.. أنتم الذين يجب أن تقودوا الأمة.. ولا تجعلوا مطبات الطريق تشغلكم عن السير في الطريق. العالم لم يعد عالمنا، بل هو عالمكم.. نحن أيضا عنيدون نريد أن نصنع لكم المستقبل، الذي لم نصنعه لأنفسنا. يجب أن تعتمدوا على عقولكم، فالله لم يخلقها لكم كي تجروا فقط وراء الأساتذة، تتلمسون عطفهم، وتترجون عطاءهم.. ولكن لكي تترفعوا عن العطف، وتأنفون من الرجاء.. ولكن أقول شيئا مهما..
يسكت الأستاذ .. وتشخص الأعناق الشابة..
- همم! الأساتذة.. إنني أرى الواحد منكم ينتظر موعدا ضربه له أستاذ ساعات ولا ييأس، ولا يشكو.. وقد يأتي الأستاذ وقد لا يأتي، ثم يعاود مرة وراء مرة بإصرار ولا شكوى.. وهذه الصفة المهذبة والروح المصرة.. تأسرني.. بل إني أتعلم من صبركم، وأدبكم .. إنكم يا أولاد جميلون ورائعون .. ولا تعلمون ذلك. أول تملس حكيم للحياة هي أن تكتشفوا كم أنتم رائعين وكم أنتم قادرين.
ينفضّ الفصل. يقوم أحد الطلبة يحمل خبر قائمة الجامعات السيئة الشهرة، ويقترب عند الأستاذ ويصافحه.. ثم يمزق صفحة الخبر!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي