الاقتصاد السعودي .. الحد من الاختناقات
تشهد المملكة وفرة مالية غير مسبوقة بحيث تعيد بنا الذاكرة إلى نهاية السبعينيات من القرن الماضي حينما مر الاقتصاد السعودي بما يسمى مجازا فترة الطفرة. الواضح أنه في تلك الفترة لاحظ الجميع حركة اقتصادية كبيرة اتضحت معالمها في قطاع الإنشاءات والبنية التحتية, بينما الوفرة المالية الحالية كان أبرز معالمها فقاعة الأسهم. من الواضع أن الحكومة تحاول الاستفادة من الوفرة الحالية في السيولة المالية لتعويض ما فات من توقف وجمود في تلبية الطلب على النواحي الخدمية وبعض من مشاريع البنى التحتية, إلا أن هناك اختناقات من نوع جديد (قديم).
هذه الاختناقات تعوق الاستفادة من تحويل الرساميل المالية إلى قوالب اقتصادية منتجة ماديا كانت أو غير مادية. استراتيجيا تعطينا الوفرة المالية فرصة ذهبية لفك الاختناقات من أجل المساعدة على انطلاق الفكر والموهبة والمبادرة ولكن يبدو أن هناك عجزا جماعيا للتعامل مع كل هذه الاحتباسات والاختناقات.
تتمثل نقاط الاحتباس في المعوقات التي تواجه القطاع الحكومي المستفيد الرئيسي والأول من الوفرة المالية, فقد ذكر أحد الخبراء السعوديين في مجال الصرف الصحي على سبيل المثال, أن الحكومة أقرت ميزانية لهذا القطاع في عام 2006 تعادل أكثر مما أقر من ميزانيات في السنوات العشر السابقة في وقت تعاني فيه مدينة الرياض نقصا في مستوى خدمات مجال الصرف الصحي, ناتجا عن البطء في تنفيذ المشاريع المخصصة لهذا القطاع الحيوي, وهذا ينطبق على عدة قطاعات ومناطق في المملكة. تمخضت عن هذا التأخير والبطء في التنفيذ عدة نتائج عملية منها فقدان الخبرة لدى الكثير من الطواقم والكوادر البشرية الموجودة حاليا في دراسة ومتابعة تنفيذ المشاريع وتراكم المشاريع المطلوب تنفيذها مما صعب أهم مهمة, وهي التوازن بين الخطط الاستراتيجية الطويلة والاحتياجات الآنية الملحة من جهة أخرى.
هذه الضغوط انتقلت بدورها إلى قطاع المقاولات الذي وجد نفسه جائعا فترة طويلة, حيث واجه مشكلات كثيرة ولفترات طويلة تمثلت في تأخير المستحقات في أواسط التسعينيات ثم حلت هذه تدريجيا وبعدها أتت سنوات عجاف دون مشاريع وعندما بدأت المشاريع في الظهور دخل هذا القطاع نفقا آخر تجلى في تعمق البيروقراطية وخروج بعض الكفاءات من المؤسسات الحكومية, مما تسبب في تأخر طرح المشاريع, وزاد على ذلك متطلبات وزارة العمل غير المتوقعة "يبدو أنهم لم يلاحظوا المتغيرات الحاصلة في السوق".
الجدير بالذكر أن إعادة تأهيل واستعداد وتجنيد هذه الطاقات لدى شركات المقاولات والمؤسسات الحكومية ذات العلاقة عملية مكلفة على الاقتصاد السعودي ليس ماليا فحسب, بل في تراكم الخبرة والمعرفة والوقت, ولذلك لعلنا نستفيد من تجربة الماضي في التخطيط لمستقبل مشرق من خلال تكاليف مجتمعية أقل.
الاختناق الآخر المهم الذي له علاقة أكثر مباشرة مع حالة المواطن الاقتصادية هو في تكلفة بناء المساكن الخاصة "يتضح ذلك في الفجوة في الطلب وتكلفة العرض غير المتاح لأغلبية المواطنين العاملين". تذكر الإحصائيات الرسمية في الولايات المتحدة, على سبيل المثال, أن تكلفة نصف المنازل المباعة هناك تصل إلى 750 ألف ريال على أعلى حد, ولعل هذا المبلغ لا يكفي لشراء قطعة أرض في أي مدينة كبرى في المملكة, حيث إن سعر الأرض هو الجزء الأكبر ليس في التكلفة فقط, وإنما كعامل مانع من الدخول في نادي ملاك المنازل الخاصة.
تحاول الحكومة منح أراض سكنية للمواطنين لكنها في الغالب بعيدة مما يجعل بناء منازل فيها مكلفا للحكومة أكثر "من خلال الحاجة إلى إيصال الخدمات الحيوية العامة إليها ـ ماء, كهرباء, هاتف, صرف صحي, مدارس, ومستشفيات .. إلخ", لذلك يكمن الحل في اتجاه الحكومة نحو تبني دور مالي معين كأداة للتغيير, وذلك بفرض رسم معين على ملاك الأراضي الخالية في المدن الكبيرة والمتوسطة, خاصة تلك الصالحة للسكن, قد يكون هذا الدور من خلال مصلحة الزكاة والدخل أو من خلال الأمانات في فرض رسم سنوي يعادل 2 ـ 3 في المائة مقابل الخدمات. هذا الرسم سيضطر الملاك إلى توجيه رأس المال المعطل في هذا الوسط الاستثماري غير المجدي إلى وسط استثماري أكثر جدوى, وكذلك يقلل من تكلفة بناء المنازل وهذا بدوره يدعم المواطن والمقاول وتاجر مواد البناء والمؤسسة المالية والفنية ذات العلاقة.
فك هذه الاختناقات يساعد على تحريك العملية الاقتصادية ويربط بين المواطن ومصلحة بلاده.
هناك اختناقات واحتباسات أخرى في الاقتصاد السعودي ولعلنا نستعرض بعضا منها في مقالات مقبلة للوقوف على طبيعة بطء الحركة الاقتصادية الذي لا يتماشى مع رغبة القيادة أو حاجة المواطن أو استيعاب رأس المال المتوافر.
* عضو الجمعية الاقتصادية السعودية