أوضاع الكهرباء.. هل يخففها بيان الشركة؟!

حاولت فيما تناولته عن أوضاع الكهرباء في المملكة ("الاقتصادية" 3/5/1427، 24/9/1427)، أن اتخذ موقف المراقب المحايد الذي ينظر إلى الآخر من زاوية مستقلة يتبنى من خلالها دور المواطن الذي يهمه أن ينهض هذا القطاع الاقتصادي المهم ليواكب مسارات النمو التي تشهدها بقية القطاعات الاقتصادية، بخاصة في المرحلة الراهنة التي نَشْرع فيها الأبواب استقطاباً للاستثمارات الأجنبية التي تعد الطاقة، وفي مقدمتها الكهرباء أحد أبرز مقوماتها ومحفزاتها. وأحسب أنني التزمت جانب الموضوعية في تحليلي لما آل إليه الوضع حينما ألمحت إلى أن الشركة السعودية للكهرباء التي ولدت نتاج تجميع تركة ثقيلة مبعثرة من الشركات المساهمة العامة والمحدودة والخاصة والمشاريع الحكومية، قد اعتبرت هي الحلقة الأضعف في تظاهرة الهيكلة التي تمت قبل بضع سنوات، والتي غُلّفت بالكثير من التفاؤل والأمل في النهوض بهذا القطاع على كل المستويات، وأولها توفير مصادر التمويل للتوسعات المطلوبة، بيد أن هذه الهيكلة ما لبثت أن تبينت عيوبها، وأصبحت الشركة تئن من عجزها عن تشغيل وتسيير المرفق بمنأى عن خطر التوقف والانقطاعات، ناهيك عن عدم القدرة على تلبية الطلب المتزايد على الخدمة.
وبين من يوجه اللوم للحكومة، ويحملها الجزء الأكبر من المسؤولية عما حدث، بسبب ما قيل عن عدم التزامها بشروط الهيكلة، وأيسرها التسديد المستمر لالتزامات الأطراف إزاء بعضها، وأولها الاستهلاك الحكومي الذي أخذ يتراكم على مدى السنوات التي أعقبت اعتماد التكوين الجديد حتى بلغ 19 مليار ريال، كما أعلن أخيرا، ومن يلوم الشركة ذاتها على عدم التزامها أسس الهيكلة، وأولها التشديد على تنفيذ برامج صارمة لترشيد الاستهلاك تحد من الطلب على التوسع في التوليد، وكذا الترشيد في مصروفاتها هي إزاء ما يتردد في الشارع عن توطّن الإسراف في تكاليف المشاريع التي تنفذها الشركة، وفي تكاليف إدارة الشركة ذاتها, فضلاً عن عدم قيامها بتسديد التزاماتها المالية، مقابل الوقود، ومقابل الطاقة الرخيصة التي تنتجها محطات تحلية المياه، وتمدها بها بأسعار رمزية.
أقول: بين هذا وذاك، يبدو أن الشركة أرادت أن تدافع عن نفسها بطريقة خاصة، فنشرت في الأسبوع الماضي في الصحف المحلية ما يمكن تسميته إعلان أو بيان تحت اسم (ما الذي أنجزناه في خمسة أعوام لخدمتكم) على مساحات صفحات كاملة بالألوان والخط العريض (على حساب المساهم) يظهر ما تحسب الشركة أنه يشفع لها في الموقف الحرج الذي وجدت نفسها فيه بعد خمس سنوات من نفاذ التنظيم الجديد، بيد أن هذا الإعلان يخفي من المؤشرات ما لو تم الإفصاح عنه لأسقط الإيجابيات التي قد تلمح من البيان غير أن اللافت للنظر هو توقيت الإعلان وطريقة إخراجه والأسلوب الانتقائي لمحتوياته، بدليل أنه خلا من الإشارة إلى أي من العناصر التي يقاس بها النجاح الإداري عادة، مثل مقدار الترشيد والخفض الذي تحقق في الاستهلاك بعامة، وفي نفقات الشركة ذاتها بخاصة، وكذا الزيادة التي تحققت في الإيرادات، ومن ثم في الأرباح الصافية التي هي معيار النجاح في نظر المساهم، وأما زيادة قدرات التوليد فيمكن النظر إليها على أن أهم عناصر الهيكلة وهو الترشيد كان مُغيباً ولم يتحقق منه شيء، إلا لأسهم ذلك في تحجيم الطلب على التوليد، وأما الزيادة في عدد المشتركين وعدد القرى المكهربة وأطوال خطوط النقل وشبكة التوزيع إلخ.. فهي أمور طبيعية للتطور ولم تكن غائبة أثناء دراسة إعادة التنظيم.
وإذاً فلم يكن هناك هدف واضح من وراء نشر هذه الإحصاءات المنتقاة بعناية غير تحسين الصورة أمام من تبهرهم المظهرية والألوان، ولكن ما الذي يستفيده الشخص العليل من التجمّل مظهرياً، إذا كان يعاني من علل داخلية.
أعود, ربما ليس للمرة الأخيرة, إلى محاولة تشخيص علل هذا القطاع, وأسباب ما آل إليه, في محاولة للتنبيه وتدارك ما يمكن, قبل فوات الأوان:
1 ـ إن الإسراف في الاستهلاك سمة ظاهرة لدينا, ولا سيما في الكهرباء, حتى عند تصميم الشوارع والطرق والمباني والدوائر الحكومية, فلا يوجد شارع يمكن إطفاء نصف أنواره بعد منتصف الليل. ولا يوجد طفل يطفئ أنوار غرفته أو تلفزيونها من نفسه بعد الخروج منها, كما لا توجد خادمة تفعل ذلك, وكيف تفعله وقد تعلمت منا الهدر؟ إنني أتذكر بهذه المناسبة, ثم أتحسر, مسؤولا أجنبيا كبيرا ذهبنا إليه في زيارة رسمية خارج المملكة, كان هو الذي يفتح الإضاءة في غرفة الاجتماعات, ثم يغلقها بنفسه بعد انتهاء الاجتماع! هل يوجد من يفعل ذلك لدينا؟ بل هل يوجد أب أو أم أو مدرسة يعودون الطلبة الترشيد أو يأمرونهم به؟ وهل توجد إدارة حكومية روعي في تصميمها أن تستفيد من ضوء النهار؟ وحتى لو وجد فهل نستفيد منه فعلا؟ إذاً لا تستغربوا أن يصل استهلاك الدوائر الحكومية إلى الحد المذكور آنفا.
أقول بثقة, ودون تردد, إننا نستطيع توفير ما نسبته 30 في المائة على الأقل من استهلاكنا, وإذا تحقق ذلك فنستطيع الاكتفاء به عن الحاجة إلى المزيد من التوليد لبضع سنوات, أما كيف يتحقق ذلك, فلا بد من وضع البرامج التي تحدد مواطن الإسراف وكنهه وحدوده, ثم اقتراح الآليات والوسائل التي تضمن الالتزام به, وأول الدروس يأتي من الأسرة, ثم من المدرسة, بشرط أن نحمل الجميع على ذلك ونقسرهم عليه قسرا بوسائل متعددة تأتي في مقدمتها التوعية والرقابة المشددة.
لقد وقفت إكبارا للجهد الذي تبذله وزارة المياه فيما يتعلق بترشيد استخدام المياه ومن ذلك إصرارها على توزيع مرشدات الاستهلاك دون مقابل ومتابعتها استخدامها, ومنه قيام فرق ميدانية بزيارة البيوت عند ملاحظة زيادة الاستهلاك, والإصرار على الكشف عليها من الداخل للتأكد من عدم وجود هدر أو تسربات, لكي يجري إجبار المشترك على إصلاحها (..) أليس بإمكان شركة الكهرباء أن تتبنى مثل هذه الوسائل المتاحة؟
2 ـ ينبغي الاعتراف, لكي نستطيع التصحيح, بأن الهيكلة الأخيرة قد طغت عليها عوامل السرعة والتفاؤل, ولم تصاحبها رؤية بعيدة المدى تقيس النتائج والاحتمالات, وكان كل من الحكومة والشركة, أو من كان يتكلم باسم القطاع, مسكونين بحلم التخلص من المشكلات التي تواجههم, فالشركة من جهتها, كانت تحلم بالتخلص من المديونية الثقيلة التي تنوء بها للجهات التي كانت تمدها بالوقود, وتهدد بالتوقف عن ذلك.., والحكومة كانت تتمنى, أمام ضعف الموارد المالية في ذلك الوقت, التخلص من ديون الشركة الممثلة في الاستهلاك الحكومي, وكان كل منهما يطالب الآخر بالدفع, ولذلك فقد وجدت فكرة المقاصة التي طرحت ضمن الهيكلة (على طريقة كل يصلح سيارته) صدى مقبولا, مدفوعا برغبة الخلاص من الحمل, على طريقة:
أعطني حريتي أطلق يديا
إنني أعطيت ما استبقيت شيئا
كما وجدت فكرة إسقاط الإعانة الحكومية مقابل تنازل الحكومة عن نصيبها من الأرباح صدى دغدغ هو الآخر أحاسيس المسؤولين عن الشركة, فتقبلوه, دون إجراء حساب لكل العناصر لمعرفة الطالب من المطلوب, وهو ما بدأت آثاره تظهر, وإن لم تكن خافية على ذي فطنة عند الهيكلة!
كان أيضا من سلبيات الهيكلة, التي لم يحسب لها حساب, في غمرة الفرحة بالخلاص من الحمل, أن تم توفير الطاقة بأقل من تكلفتها لفئات من المستهلكين كالصناعيين والزراعيين, ومعظم صغار المستهلكين, وفئات أخرى أقحمت تحت ضغط العاطفة وأصبحت الشركة تخسر في إمداد هذه الفئات, الأمر الذي شجعها على الإسراف في الاستهلاك, وأضحت الخسارة من جراء ذلك تُجير ليتحملها بقية المشتركين في صورة تعرفة تتجاوز التكلفة بكثير, وتمتص جزءا من الأرباح التي كان من المفترض تحقيقها! هذا فضلا عن أنه كان من نتائج التنظيم أن ألحق الضرر بمساهمي بعض الشركات المتميزة بأدائها الإداري, والأرباح التي كان يحصل عليها مساهموها قبل الدمج.
3 ـ لا بد من إعادة تنظيم القطاع وهيكلة التعرفة من جديد بصورة تقضي على مواطن الخلل الحالي, ومن ذلك مراعاة العدالة في توزيع الشرائح من المستهلكين. فليس من العدل تحميل بعضهم تبعات توفير الطاقة للبعض الآخر بسعر يقل عن التعرفة, إلا إذا كانت الحكومة مستعدة لتقديم الفرق كإعانة, مثلما كان عليه الوضع سابقا, عندما كانت, أي الحكومة, تضمن لمساهمي الشركات حدا أدنى من الأرباح مقابل تدخلها في تحديد الأسعار, كما أنه ليس من مصلحة أحد, حتى المستهلك نفسه, تقديم الخدمة بسعر رمزي لا يتعدى خمس هللات للألفي كيلوواط ساعة الأولى, إذ إن هذا يشجع على زيادة الاستهلاك, والمفروض أن تقدم الخدمة لصغار المستهلكين بالحد الأدنى للتكلفة, ويتم البحث عن وسيلة أخرى تدعم بها الأسر المحتاجة, مثلما أنه ينبغي أن تدعم الفئات الأخرى التي تستحق الدعم بوسائل أخرى غير الكهرباء.
وأخيرا فإن على الشركة الالتفات إلى وضعها الداخلي, وانتهاج أسلوب صارم في مراقبة الإنفاق وتكلفة تنفيذ المشاريع والتوظيف والمحافظة على الممتلكات.
والله من وراء القصد.

كاتب في الشأن العام
فاكس: 4705374

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي