المرأة وتحديات العيش في المجتمع الذكوري

[email protected]

لو التفت الواحد منا نحن العرب حوله وأمامه وفوقه وشماله ويمينه وتحت قدميه لوجد أن وضعنا وحالنا لا يسر، وأن مستقبلنا لا يبشر بخير, فالأزمات تتوالى والمشكلات تتفاقم ونحن ننزلق أكثر وأكثر في التنظير لعجزنا والتبرير لضعفنا والتشبث بماضينا ونسيان حاضرنا. ولولا الإيمان الذي نتحصن به والإسلام الذي نتعبد به لوجدنا أنفسنا من دون أمل، فلا عندنا قوة نسترجع بها حقوقنا وليس عندنا ثقافة نستعيد بها هويتنا وليس عندنا تعليم نعدل به أفكارنا ونشخص به مشكلاتنا وليس عندنا منهجية إدارية ننظم بها أمورنا وليس عندنا حكمة نرشد بها مواردنا وليس عندنا رؤية نؤسس عليها مستقبلنا. ولعل هذا الكم الكبير من المفقود في حياتنا جعلنا نشوّه كل معالم الحياة عندنا, قرأنا الدين بسماحته وعلو قيمه فأنتجنا منه مذاهب تكفر بعضها وجماعات تذبح وتقتل من يخالفها في فقها، ويرى رأيا غير رأيها وخرجنا بممارسات تكرّس حالة الجهل والتخلف عندنا. وقرانا تاريخنا فأخذنا منه ثوبا نغطي به عوراتنا، وكلما أرادت الحياة أن تسير بنا إلى الأمام وجدنا من يشكك في نوايانا لأنه لا يريد أن نخالف من سبقنا, فتاريخنا كله مقدس وأجدادنا كلهم أولياء, فعدم الاقتداء بهم والنظر في أعمالهم هو فتنة وبلاء. ونظرنا إلى الآخرين وهم يعمرون الدنيا ويفتحون بعلمهم ومعارفهم آفاق السماء ويصنعون من حبات الرمل رقائق لا تراها العين ولا تحس بوجودها اليدان ليستودعوا فيها من العلوم والمعارف ما تعجز عن حمله بطون الملايين من الكتب والقراطيس, وبعد أن نفخ الإنسان في هذه الرقائق الميتة من علمه وعقله دبت الحياة فيها وصارت حياتنا بذكائها وفطنتها أكثر تطورا وأكثر رقيا وأكثر أمانا وحتى أكثر قربا وخشوعا لله سبحانه وتعالى, كل هذا لم يغير من نظرتنا لهؤلاء الآخرين ولم يبدل من موقفنا تجاههم, فهم إما كفّار أو أعداء أو متآمرون أو ضالون. وفي المقابل نرى أنفسنا أننا أصلح منهم وأكثر منهم إنسانية، وأن علومنا التي هي مشغولة بمخاطبة الجن والشياطين التي أوجدها خواء عقولنا والمرض الذي أصاب نفوسنا وخلخل أرواحنا, وأن معارفنا المهتمة بتفكيك شفرة العين الحاسدة والنظرة الحاقدة, كل هذا كان عندنا أفضل من علومهم وأصلح من معارفهم وأبرك من أعمالهم, فهم طلاب دنيا ونحن طلاب آخرة، ونسينا أن الدنيا مزرعة الآخرة, وهم أصحاب مصالح ونحن أصحاب مبادئ، ونسينا أن تهاوننا في حفظ مصالحنا هو خطيئة في حق كل مبادئنا، وأن الامتهان الذي نعيشه من ظلمنا لبعضنا هو انتكاسة لإنسانيتنا التي هي منبع لمبادئنا وقيمنا, وهم شعوب بلا أخلاق ونحن الأولياء الصالحون، وكأن الكذب لا يوجد بيننا، وأن الغش لا نعرفه في تعاملنا، وأن الرشوة هي أبعد ما يكون عنا، وأن القسوة هي سلوك لا نقبله في حياتنا، وأن الرحمة تفيض من جوانبنا، وأن العدل قد بسط جناحيه علينا. وأما المصيبة الكبرى هي عندما نظرنا إلى أنفسنا والتفتنا إلى تفاصيل حالنا, فالبعض منا هاله ما انتهى إليه أمرنا واستقرت عليه أحوالنا فآثر الهجرة بروحه وفكره إلى غيرنا، والبعض منا لم يمتلك الجرأة فيهاجر ولم يعرف عنه الشجاعة ليواجه فكان خياره السكوت وشعاره اللامبالاة, أما البعض الآخر فأحب نفسه وعشق أهله والتصق بتراب وطنه واحتضن المبادئ والقيم التي بشر بها دينه وارتدى ثوب إنسانيته وانطلق ليصلح هذا ويعين هذا ويعدل خطأ هذا ويستمع لنصيحة هذا ويبحث عن الحكمة من هذا وذاك, ويحاور هذا ويجلس مع هذا, ويختلف مع هذا ويتفق مع هذا ويبقى يحب هذا وذاك. يحزنه تكفير بعضنا لبعض وتخيفه ممارسة الوصاية على من يفترض أن يشاركنا رأينا وحياتنا ومصيرنا, ويزعجه جدا أن يعطل الواحد منا دور الآخر بحجج غير منطقية ومخاوف غير موجودة واجتهادات غير مشروعة. وعندما نظر هؤلاء إلى حال المرأة عندنا وقارنوه بما دعا إليه ربنا، وأكد عليه ديننا وأشار إليه نبينا والتفت إليه من عاش قبلنا وجدوا أننا قد بالغنا في تعطيل دورها والحط من مكانتها وتهميش مكانتها. لا يريد هؤلاء أن ننتهي بنسائنا إلى ما انتهت إليه الأمم الأخرى, أن تخلع حجابها وتنزع حشمتها وتبيع جسدها وتتنازل عن أنوثتها وتقتصد في أمومتها وتتكابر على عواطفها وتبالغ في إثارتها وتهمش من دور أسرتها. إنهم ببساطة يريدون منا نحن الذكور أن نخفف من هذه الذكورية الطاغية في مجتمعنا ولا حيلة لنا في ذلك إلا بإعادة إنتاج ثقافتنا تجاه نسائنا. إن الثقافة التي لا ترى من المرأة إلا فتنتها هي التي تجعلنا نبالغ في محاصرتها ونسن القوانين لمراقبتها ونبيح لأنفسنا بعدم الثقة بها. وكلما خرجت علينا الدنيا بشيء جديد من الممكن أن نوظفه لصالحنا ترانا نخاف من أن يفتح باب الفساد على نسائنا، ولذلك نعود ونشدد محاصرتها والتضييق عليها، وأن الثقافة التي تجعلنا نستحي من ذكر أسماء زوجاتنا وبناتنا وأخواتنا هي التي أوحت لنا نحن الذكور بأن الحياة لنا, والعمل لنا واللعب لنا والشعر لنا والفن لنا والحب لنا والإدارة لنا والمال لنا والتعليم لنا والسفر لنا والرياضة لنا، وأن الدين لنا وحتى أنهم خلقوا من أجلنا ومن فاضل طينتنا. إن علينا أن نتعلّم من الطبيعة وسننها بأن الحياة لا تتكامل إلا بتدافع زوجيها السالب والموجب، وإننا سنعيش عيشة عرجاء إن لم تتشكل حياتنا ويعاد صياغة أمورنا ونظمنا وتعليمنا وثقافتنا بمشاركتنا نحن ونسائنا. لا نريد أن نقول إننا الوحيدون من بين المجتمعات التي تعاني من ذكوريتها ولكن بالتأكيد ذكوريتهم هي في تراجع وذكوريتنا هي في ازدياد، وهم يجتهدون في التخلص منها فينجحون مرة ويخفقون مرة, وأما نحن فنجتهد في مقاومة مَن يفكر أن يعيد للمرأة مكانتها. فالذكورية عندنا هي الأمان من عبث وفساد الحريم والداعي إلى غير ذلك إما فاسد وإما جاهل وإما يحركه أعداؤنا والمتربصون بنا الذين لا يريدون الخير لنا ولا لنسائنا. وما دام الأمر ثقافة دعونا نشير إلى البعض من قراءاتنا الثقافية الخاطئة التي كان لها دور كبير في ذكورية مجتمعنا.
1 - إنسانية العلاقة: الله سبحانه وتعالى يخاطبنا رجالا ونساء "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم", ونحن نريد أن نختزل هذه العلاقة الإنسانية بين الرجل والمرأة إلى علاقة شهوية وجنسية، وبالتالي ترانا مشغولين بهذه النظرة, فالكلام مع المرأة فتنة، والحديث معها مفسدة، وخروجها إلى العمل فساد، وتعليمها أكثر مما يلزم هو خروج بها عن طبيعتها، ومطالبتها لحقوقها هي رجولة، والاعتماد على نفسها في أمور حياتها مخالف لأنوثتها. صحيح أن الجنس له مساحة كبيرة في علاقة المرأة بالرجل وأن هذه المساحة هي التي تنشط بها حبائل الشيطان، إلا أن إنسانيتها هي أكبر بكثير من شهوتها. إننا بتغييب الإنسانية في بناء علاقتنا بالمرأة هو الذي أفقد المرأة الثقة بنفسها، وجعلنا معاشر الرجال نبيح لأنفسنا إهانتها ولشبابنا بمطاردتها في الأسواق وللأزواج أن يضربوها، وللآباء ألا يفرحوا بمقدمها وللعابثين والمنحرفين أن يتربصوا بها.
2 - ترشيد العادات والتقاليد: إن من الأمور التي يؤخذ بها علينا هي أننا نبالغ في التمسك بعاداتنا وتقاليدنا، وأن الكثير من أمور حياتنا قد تجمدت وتصلبت ولم تعد قادرة على الحراك، لأننا أردنا أن نسيرها في ضوء ما تمليه علينا عاداتنا وتقاليدنا، والتي فيها الكثير ممن انكشف لنا خطأها أو عدم صلاحيتها. من الجميل أن تكون لنا عادات وتقاليد نفتخر بها ونعتز بممارستها، ولكن علينا ألا ننسى بأن الكثير من التقاليد والعادات قد أنتجتها ظروفها وبيئتها وثقافتها الخاصة بها، وعندما نتمسك بها في ظروف مغايرة وفي بيئة تختلف عن بيئتها وفي ثقافة قد تبدلت عن ثقافتها، فإننا بهذا نعطل أنفسنا ونهمش عقولنا ونضيع الكثير من الفرص علينا. نحن لا نريد لعاداتنا أن توجه قراءتنا لتعاليم ديننا ولا لتقاليدنا أن تثير الخوف عندنا من التغيير. من التقاليد ألا تتعلم المرأة وقد تجاوزناها ومن التقاليد ألا يكون للمرأة دور في حياتنا الاجتماعية، وهذا هو الآخر في طريقه للزوال ومن عاداتنا ألا نسمح للمرأة أن يكون لها رأي في تدبير شؤونها وتنظيم أمرها وبحث مشاكلها، والإفصاح عن همومها والدفاع عن مواقفها ومناقشة من يخالفها، وهذا ما ننتظر حدوثه، ولعله هو الذي سيخفف كثيرا من ذكورية مجتمعنا ولعل فكرة إنشاء مجلس أعلى لشؤون المرأة هو الخطوة الأولى في هذا الطريق.
3 - توظيف الإمكانات: يقولون إن العلم عندما يتطور فإنه يتيح للإنسان فرصا أكبر وخيارات أكثر والإنسان يتحضر ويتطور كلما استطاع أن يوظف في حياته مثل هذه الفرص والخيارات المتاحة أمامه. فإذا كانت لنا خصوصية بحكم ثقاتنا الدينية والاجتماعية، مما قد يعطل من دور المرأة على الصعيد المهني والاجتماعي، فإننا بالاجتهاد في توظيف ما يتيحه لنا العلم من فرص وإمكانات نستطيع أن نتجاوز الكثير من الأمور المعطلة لدور المرأة، وبالتالي نخلق مجتمعا متوازنا يتحرك بقدمين الرجل والمرأة. كان البعض يعتقد أن بقاء المرأة في بيتها سيمنعها من الكلام مع الرجل، وأن الأبواب المغلقة والأسوار العالية ستمنع من يريد النظر إليها وجاءت لنا تقنية الاتصالات الحديثة لتجعل من هذا الأمر ممكنا، وفي المقابل نجد أننا لم نستفد من هذه التقنية في جمع أبنائنا وبناتنا في التعليم ومن دون اختلاط، وهذا بالتأكيد سيقلل من درجة الاحتقان والتوتر الذي نعيشه بيننا كرجال ونساء.
في ختام الحديث لا بد من الإشارة إلى أن ذكورية المجتمع هي حالة أقل ما يُقال عنها إنها غير طبيعية إن لم تكن مرضية, والذكورية مثلها مثل الكثير من المشكلات الاجتماعية، فهي نتاج لقراءة خاطئة لعاداتنا وتقاليدنا وتاريخنا ومعارفنا وحتى تعاليم ديننا، والحل كما هو المطلوب لمشكلاتنا الأخرى هو مراجعة قراءتنا لتعديلها وتصويب المعوج منها. وفي أثناء كتابة الموضوع كان أمامي مقال في جريدة "الرياض" للكاتب عبد الله الزامل وتحت عنوان "وقرن في بيوتكن" حاول فيها الكاتب أن يوظف معلومة علمية قالت إن المرأة هي أكثر عرضة لتلوث الهواء، وفي هذا انتصار لمن يدعو لبقاء المرأة في بيتها، ولكن العلم أيضا يقول إن الهواء الذي في بيوتنا ومساكننا هو أكثر تلوثا بعشرات المرات من الهواء الموجود في أسوأ شوارعنا ومدننا، فهل سنعود ونبحث من جديد عن مبرر آخر لمقولاتنا وادعاءاتنا؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي