جون كينيث جالبريت (1908 ـ 2006)، هو أحد أهم من غادروا الدنيا هذا العام:. والذي يعود أصله إلى كندا، عاش وتأقلم متعدد المواهب هذا في أمريكا، لقد كان أستاذا في هارفارد، وأديباً، وواحداً من الهيئة الاجتماعية الدولية للأثرياء كثيري الترحال من مكان شهير إلى آخر، ومستشارا سياسيا (ليس لكينيدي فقط)، وسفيرا في الهند، ومفوّض أسعار حكوميا خلال الحرب العالمية الثانية، وأحد أبطال معارضي حرب فيتنام، ويُعد من الخبراء الاقتصاديين المقروء لهم على نطاق واسع في القرن العشرين.
ألّف جالبريت نحو 48 كتاباً، وبلغ الحجم الإجمالي لانتشار أعماله نحو 7.5 مليون نسخة، وما يزيد على ألف مقال قصير، حيث جدد فيها باستمرار انتقاداته لاقتصاد السوق الخالصة أو المطلقة. وبالفعل شكّلت مجادلاته مع ميلتون فريدمان، قضايا أسطورية. فقد بدت النظريات غير المألوفة، والضخمة لغوياً، والرمزية "للمزدري جالبريت" في الدوائر المتخصصة على أنها غير جديّة، ولكنه حظي بإعجاب باهر ضمن نطاق واسع من الجمهور.
وكانت القضيّة الأهم لدى جالبريت هي "سلطة مجموعات الشركات الكبيرة"، وعواقب هذه السلطة على المستهلك، والموظفين، والحكومة، حيث إن السماح "لمجموعات الشركات الضخمة" بالظهور في "الرأسمالية الأمريكية" عمل على إلغاء تشريعات السوق، وفازت تلك المجموعات بالتأثير في الحكومة. وقد رأى الخبير الاقتصادي للرد على هذه الحال عن طريق القوة المعارضة و مجتمعات مهنية قوية. ولاحقاً اعترف الكاتب، بأنه قلل في تلك الأحيان من شأن القدرة التي تمتلكها الشركات والمجتمعات المهنية على التآخي، حيث يمكنها الاتفاق على زيادة مرتفعة للأجور، وكيف يمكن لهذه السياسة أن تفرض التكاليف الاقتصادية الإجمالية، والبطالة العمالية، والتضخّم على الحكومة.
ومن أشهر أعمال جالبريت كتاب "مجتمع الوفرة" الذي أصدره في عام 1958. وهناك رسم جالبريت تفاوتاً صاخباً للثراء الخاص، والفقر العام. وكما ورد في الفقرة التي لطالما يُقتبس منها:
" فلننظر معا إلى هذه الأسرة أو تلك، إنها تستقل سيارة أوتوماتيكية ومجهّزة بتدفئة أو تبريد ذات مصاف لتنقية الهواء، تخرج الأسرة بالسيارة لتقوم بنزهة، تسير عبر شوارع معدّة بطريقة سيئة، وغير نظيفة، وتمرّ بمنازل قديمة ومتداعية للسقوط، ولوحات إعلانية مريعة. ثم يصل المتنزهون إلى الموقع حيث تقضي هذه الأسرة وقتاً ممتعاً على ضفة أحد الأنهار الملوثة بمخلفات المصانع ويأكلون الأغذية المحفوظة المعلبة الموضوعة داخل الثلاجات المحمولة. بعدها يلقي أفراد الأسرة أجسادهم على فراش من الوسائد الهوائية داخل خيمة من النايلون محاطين بروائح كريهة سببها النفايات العفنة من حولهم وفي خضم كل هذا يتبادلون أفكاراً غامضة حول التباين الغريب للمنافع المتاحة لهم".
يمكن القول إن هذا النص كان موجهاً بصورة حادة، إلا أنه أصاب عصب تلك الفترة. فقد وضّح جالبريت التقدير المبالغ فيه للاستهلاك الخاص عن طريق الإيقاظ المفتعل للحاجات لدى المستهلك بواسطة الإعلانات المتلألئة من قبل مجموعات الشركات الكبرى، كما وصفه "فينس باكارد" قبل بضعة أعوام من هذا في كتابه الأفضل مبيعاً "المُقنِعون المُبَطنون". وطالب جالبريت بتحقيق "موازين اجتماعية متعادلة"، تقوم على "العلاقة السلمية" ما بين السلع والخدمات الخاصة والعامة.
وعام 1967 عرض الخبير الاقتصادي كتاباًً حقق أفضل المبيعات "ولاية الصناعة الجديدة ـ ذي نيو إندستريال ستيت"، حيث عاد جالبريت من جديد إلى مبدأ الاقتصاد المنشطر نصفين، هناك حيث تواجه المنافسة الاقتصادية للشركات الصغيرة مجموعات الشركات الكبرى، القادرة على تحقيق أسواقها الترويجية بنفسها، والتي بالتأكيد تعيش عليها، ومع مرور الزمن تتحوّل من شركة إلى بيروقراطية، والتي تتعاون مع الحكومة بصورة وطيدة، كما قيل. وهنا يكمن خطر على الديمقراطية. وحتى فترة الثمانينيات اعتقد جالبريت باحتمالية التقارب الطبيعي ما بين مجموعات الشركات الغربية، والاتحاد السوفياتي – وعلى الأغلب هذه أبشع أخطائه.
والمركبات التي يدمج بها جالبريت ويبني عليها مؤلفاته التعليمية، يمكن فكّ تشفيرها بسهولة. وينبثق التعليق الساخر نوعاً ما على الاستهلاك الخاص للفخامة أصلاً عن الخبير الاقتصادي "تورشتاين فيبلن"، الذي عاش طوال حياته معبراً عن إعجابه بجالبريت. وترأس مراوغة تعاليم السوق والنابعة عن نظرية المنافسة غير المرغوب فيها من فترة الثلاثينيات، عن جون روبينسون، وإدوارد شامبيرلين، وكذلك النظرية الشهيرة في فترة حياته عن بيرلي مينز، وبناءً عليها تضع الشركات الكبرى أسعارها بصورة مستقلة، بحيث يُضيفون أرباحهم إلى التكلفة. هذه الصورة للشركات الكبيرة المتحوّلة للبيروقراطية استحوذ عليها جالبريت من جوسيف أيه شومبتر، الذي تعرّف عليه خلال أعوامه الدراسية في هارفارد. وفي المقابل بقيت النظريات الحديثة لجالبريت غريبة.
من وجهة النظر اليوم، فقد ضلّ جالبريت، مثل غيره ، في قوة التجدد للرأسمالية، والتي أرسلت مجموعة الشركات المتشابكة بيروقراطياً مع السلطة المطلقة المزعومة لمديريها المتداولين المؤسسين، في صناديق الأجور التقاعدية و الاستثمارية، إلى بيوتهم. إن شكوك جالبريت في السوق توازت جنباً إلى جنب مع الثقة الكبرى بالحكومة، حيث إنه طالب في كتاب "المجتمع الوفير" بـ "الموازين الاجتماعية المتعادلة" ما بين السلع الخاصة والعامة، الشيء الذي بدا وكأنه مبدأ وهمي.
وانزوى جالبريت بعيداً، هو وأهم نظرياته. إلا أن هذا لا يعني بأن كل ما ورد عنه كان خاطئاً. وتلوّث البيئة الذي اشتكاه سابقاً، تحوّل إلى إحدى القضايا الرئيسية. وعلى أية حال، بقيت قوة المجموعات الكبرى على الأجندة.وبالإضافة إلى هذا، فقد كتب جالبريت عن الفقر، والتنمية، وعن تاريخ المال والعقيدة، ولكنه نجح بصورة خاصة عندما كتب عن انهيار أسواق البورصة في عام 1929. وتم إصدار سيرة ذاتية في عام 2005 حول حياة جالبريت الثرية والطويلة. إلا أن تلك السيرة لا تغني عن ضرورة القراءة الأصلية لمؤلفاته.
??