"الْعــارفْ لا يْعِـرَّفْ"

<a href="mailto:[email protected]">abubeid@binzagr.com.sa</a>

نزلتُ السبت الماضي ضيفاً على فضائية عربية لمناقشة (الرؤية المستقبلية للاقتصاد السعودي)، وعرفت لحظات قبل بداية اللقاء، أن الندوة تسعى، بتركيز كبير لتقييم مدى الحاجة لإصلاح اقتصادي بعد مجهود ربع قرن، ومعرفة مدى تواجده، وقياس حالته، ومقارنتها بالبلايين التي أنفقت على مدى الربع الأخير من القرن الماضي، والنتائج التي حققها الاقتصاد والأحوال المعيشية للمواطنين والازدهار الاقتصادي وعما إذا هنالك حاجة لإصلاح اقتصادي.
الاستمرارية في النهج الاقتصادي الاجتماعي ضمن التطوير والتحديث المكتسب من المقتنيات العلمية والخبرات الحديثة توجه سليم يتناظر حول مداخله ومسالكه أصحاب العلم الاقتصادي والمعرفة الاجتماعية والواعين للأحوال السياسية والمحاذير المجتمعية والثوابت والعقيدة. المشاركة الجماهيرية الواسعة لبرامج التنمية أو النمو فوائدها عظيمة، ويجتمع في تنفيذها والاستفادة منها الشرائح المختلفة للمجتمع المتمثلة في أغلبية المواطنين، وقياس عدالة نجاحها تقارب الاستفادة للمواطنين من تحسين الأحوال المعيشية ليصبحوا طبقات فوق بعضهم البعض.
النظرة لإنفاذ البرامج التنموية من زوايا إصلاحية تفترض انقسام تنفيذ الفكر التنموي لأبناء الوطن الواحد لجماعات منقسمة على نفسها بين مؤيد ورافض وناصر وخاسر، وتدخل الشقاق في المجتمع وتؤدي إلى صراعات بينهم، على أسس ومبادئ الخارج والداخل والواصل (مصلحياً) في الوطن الواحد، متماثلاً مع احتمال تداخلات من الخارج لفرض تحقيق غاية من خلال دعاية خدمة إصلاحية. الترويج لنعمة الإصلاح الاقتصادي الاجتماعي ظهر بقوة منذ عامين من خارج المنطقة، لقيام نظام أمريكي اقتصادي اجتماعي لمنطقة الشرق الأقصى الكبير، والجدال المحلي المعارض دار على مختلف المستويات، مما أضعف مصداقية المشروع وأفرغه من مضامينه الهايفة، وبيَّن أنه لم يخرج عن كونه كلمة حق أريد بها باطل. سارع الأوروبيون في يونيو من العام الماضي لاستغلال ظروف وملابسات كشفها، واعتمدت قمة الدول الثماني في سي لاند بجورجيا وثيقتين، الأولى تحت عنوان (مشاركة من أجل التقدم ومستقبل مشترك مع منطقة الشرق الأوسط الكبير وشمال إفريقيا)، والثانية تحمل عنوان (خطة مجموعة الثماني لدعم الإصلاح). الترويج للإصلاح لنواقص اقتصادية واجتماعية على الرغم من إنفاقات هائلة لسنوات طويلة، يختلف كلية عن برامج النمو لمشاريع استثمارية والتنمية لمرافق اقتصادية اجتماعية رغبة في تحقيق الازدهار. النشاطات الثلاثة تحكمها التطلعات التي تخدم قيامها، وجميعها ليست جديدة على مجتمعات المنطقة. الإصلاح الاقتصادي الاجتماعي مثل المطر له كاره ومحب، والتركيز على النمو منطقي لاستمرارية تكامل النمو، والتنمية الاقتصادية الاجتماعية تهدف الوصول لتكامل الاقتصاد بأحسن الخيارات والأساليب، والتعرف عليها أسهل من تحديد أولوية وصول البيضة أو الدجاجة.
بداية التغير الكبير في الإنفاق الحكومي الوطني تزامنت مع زيادة هبة دخل الزيت الخام في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، ونتج عنه توسع الإنفاق الاستهلاكي في مشاريع البنية التحتية وتوسيع قاعدة النشاطات الخاصة والعامة في التجارة والصناعة والزراعة والصحة العامة والتعليم .. إلخ. زيادة الدخل الريعي ارتفعت معدلاتها (فلكياً) مع بداية القرن الحالي، وصاحبها تغير التوجهات الاقتصادية العلمية، والاستسلام لقبول تقارب النظم والقوانين للمتطلبات العالمية، وتقارب أنماط العمل لترف الأداء للعالم الغربي وبتنافس متدرِّج يفهم حتمية توجه الفكر الاقتصادي الاجتماعي نحو الإنتاج، بإنتاجية مزاحمة وأساليب مختلفة وفقاً لواقعية تحقيق الهدف؛ بدون توفير الخدمة الكاملة لتحسين مناخ الاستثمار والأعمال لمنطقتيها ومقارنة باقتصاديات الخليج والعالم.
حديثي في الفضائية السبت الماضي تجنب عنوان اللقاء، لعدم قناعتي بجدواه للعلم والمعرفة والبناء، فتوجه صوب السرد الاقتصادي التاريخي، تاركاً للمشاهد مهمة التقييم وتجنبت الدخول في نقاش يرتكز على منطق (بيزنطي)، ليس لما اعتبره مضيف البرنامج ابتعادا مني عن الشفافية خلافاً للمعتاد، بقدر رغبتي أن لا أكون طرفا في ادعاء وفهم يجري وراء حق مع احتمال أن يراد منه حدوث باطل، يعكس أفكاراً اجتماعية محلية متفاوتة تحمل طي ثناياها طموحات معارضة دفينة، أو نشاطات خارجية تروِّج لها حكومات غربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية دعماً لسيطرتها. اتباع أسلوب الحاجة للإصلاح لأهداف أخرى قديم، وغطاه منذ سنة 1871 كتابة الجنرال حسين إلى الوزير خير الدين دفاعاً عن الإصلاح، وفي حقيقة الأمر يمثل انعكاسات لفرقة بين العرب والأتراك في ذلك الزمان.
النهضة التي عاشتها البلاد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أدخلت تعديلات وتحسينات كبيرة في اقتصادنا وحياتنا ومعيشتنا، طوَّرت فكرنا وتطلعاتنا لدرجة تجعلنا غير راضين عن المستويات التي نحن عليها اليوم في كبريات المدن ومقارنة بالتقدم والتطور الذي عليه العالم، ونعتبر أيضاً الحاجة ملحة لمواجهة التخلف الاقتصادي الاجتماعي في المناطق النائية عن كبريات المدن والبطالة والفقر. الاختلافات الاقتصادية والاجتماعية للأفراد والمناطق يمكن احتسابها علمياً ومعالجتها اقتصادياً وفق النظريات والأفكار المتوافرة بالأساليب المطوعة لرغباتنا، دون الحاجة للملامة والفرقة بين المواطن والدولة، حيث إن عزة الوطن في دور المواطن لدولته، مما يجعل المسئوليات والمكاسب للمواطن والدولة تحصيل حاصل. طالما أن النتيجة تخلفت عن المستويات المعترف بها، فإن الخلل مرده تفاعلي للمواطن في دولته,التي تركيبتها من مواطنين بعضهم في مواقع المسؤولية وآخرون في مواقع المساءلة.
دعاة الإصلاح يرون أن المشاريع الكبيرة المعلنة أخيرا لكثير من مناطق المملكة لا تتماشى مع الاحتياجات القائمة ولا تعالج الأوضاع السائدة، لعدم ترابطها مع الكيانات القائمة وانعدام التخطيط لترابط يقوِّي البنية الاقتصادية ويصلح الكيانات السائدة. تفصيلات المشاريع المعلنة غير متوافرة، والأهداف غير واضحة، وعليه لا يمكن استباق الأحكام. الاهتمام الجديد بمناطق تحتاج تنمية عاجلة توجه جيِّد. المهم أن المشاريع الكبيرة ونظمها التفضيلية لا تشغل التفكير بعيدين عن مواجهة المشاكل والعقبات القائمة في باقي المناطق الاقتصادية وضمان رسم المخططات الاقتصادية للمناطق الجديدة بما يوفر تكامل التوجه الجديد مع الترتيب القائم. الاقتصاد السعودي المحلي القائم قوي ومتين، لكن الاستفادة منه أقل بكثير من قدراته التي (يضر بها) استمرار بقاء العوائق والمحبطات والإهمال والتهاون .. إلخ، بدون إصلاح وتعديل واستقامة الأحوال لمواجهة أضرار، تزايد فروقات المغريات لدول الخليج خاصة والعالم عامة يسلب فرصاً استثمارية واعدة للاقتصاد السعودي تتحول بقدرة قادر لدول أخرى يترتب عليها ضرراً عظيم على الاقتصاد السعودي وضياع استفادته. النظم القائمة بعضها متفق عليها من دول مجلس التعاون، وبعضها فيه خروج عن النص, بينما المساواة في الظلم عدل.
التوجه الاقتصادي التطبيقي الجديد ربما يستهدف إيجاد تطوير اقتصادي ونمو إعماري في مناطق حركتها وتحركها بعيدة عن سرعة المناطق المزدهرة، والمشاريع الكبيرة تحقق زيادة في النمو. طالما أن الهدف تنمية إقليمية تعكس الحاجة والفكر لتوفيرها قوي الوضوح لربطها بباقي المناطق ونشاطات الاقتصاد، فإن نتائجها تمثل طفرة سريعة في توسيع الجغرافية الاقتصادية، ومعالجة احتمال التباين في الجوانب الإجرائية والتنفيذية وتسيير الأعمال والابتعاد عن انعدام التوازن في النشاطات والتأثير على الاستفادة وتعطيل القدرات التزاحمية.
التوقعات للنتائج المرتقبة من المشاريع الكبيرة صعبة التقدير، لعدم معرفة تفصيلات الوسائل والطرق التنفيذية ولا الوقوف على الأهداف. الأحكام الفردية والآراء الأحادية لا تنفع، وقد تضر، وعليه مهم أن يكون التوجه الجديد في توسيع الجغرافية الاقتصادية واضحا ومعروفا، ولا يغفل تجديد القديم وبناء الجديد ضمن برنامج للتنمية الاقتصادية الاجتماعية التي تعترف بحقيقة المشاكل الاقتصادية القائمة وبرامج معالجتها وفقاً لجدول زمني. الربع الأخير من القرن الماضي تمت فيه تغيرات وتحسينات كبيرة في البنية التحتية وفقاً لمخططات موضوعة وتغيرات أثرت في أوضاع المواطنين وفقاً للثراء والحياة الجديدة فاقت فيه الرغبات على القدرات والمقدرات وتغيَّرت الأحوال المعيشية وتأثرت القيم والعادات وتبخرت المهارات والخبرات واندثر كثير من العادات والتقاليد والضوابط الاجتماعية والمحاذير، وزادت أعداد الموظفين من الكتبة والنظريات والتنظير على حساب المهنيين والحرفيين، وارتفعت العمالة وزادت العطالة وتولت العمالة الأجنبية مسئوليات الأعمال والتشغيل في المجالات التي تقاعسنا عن تحملها في جميع مراحل العمل. البناء والتشييد تحقق بمعجزة عوامل إنتاج خارجة عنا، جسَّدت حياة الاستهلاك والرفاهية والفاقة.
الحياة التي نقلل من قناعاتنا بها ونشكو لأنفسنا من مضايقاتها هي من عمل أنفسنا، وبمقدورنا أن نعيشها ونبقي عليها طالما أن هبة الدخل الريعي متوافرة ومتزايدة. منطلق الحاجة لاستمرارية مستويات الدخل الحالي، يفرض ضرورة وأهمية خطة للتنمية الاجتماعية بمفاهيم اقتصادية لتحويل الفكر الاستهلاكي السائد إلى فكر إنتاجي بمشاركة المواطن للتعليم والعمل والإنتاج، ويعطي اهتماما كبيرا ومتزايدا للخبرات والمهارات والتقانة وإزالة العوائق الراسخة في التعامل. الانحسار في الإبداع تغير معاكس مع زيادة الإنفاق, دون الاهتمام بتنمية دخول الأفراد، صاحبه تدني المستويات الفكرية والقيم والعلاقات الإنسانية.
الحاجة مُلِحَّة ليتحول الشباب والشابات لحب العمل الفكري وبالأيادي والسواعد لإنتاج ينافس المزاحمة الخارجية. المناخ الاجتماعي مغاير لأساليب العمل والإنتاج الغربي، مما يتطلب أن نختار لأنفسنا أسلوب عمل يناسبنا ليقدم إنتاجية عالية، أو أن نوفر للأسلوب الغربي المناخ الذي يتطلب نجاحه، وتوفير المهادنة السائدة لاختلاف التقديرات الإنسانية والقيم، جديرة الاهتمام دون التأثير سلباً على الجدول الزمني للتنفيذ، وضرورة مواجهة التفاوت بين كلفة المعيشة والأجور وتأثيرها السلبي على تضخم أمراض العصر الخبيثة من المخدرات إلى الإيدز، والتحديات النفسية ومخاطر ترك الشباب والشابات بدون متابعة أحوالهم وضائقاتهم. المشاكل الاجتماعية والانفلات الاقتصادي متجزر وخطير بين صفوف الشباب والشابات، ولا تنفع إدارة ظهورنا ولا قبول (المراهم) التقليدية. الخطر أجراسه تدق، والحاجة لمواجهته من الفكر المسبب له في الداخل والخارج ليكون الازدهار متوازنا في المجالات الاجتماعية والأسرية.
المشكلة الاقتصادية الاجتماعية المحلية مخفيةٌ المظهر، ومشاعة المخبر بالتسمُّع دون مخاطر المغالاة والتهويل. التفكير والاكتفاء بمعرفة الحاجة للإصلاح هو سجال لا ينفع، بل يضر. الانبهار بتحسين المؤشرات الاقتصادية الاجتماعية نتيجة للنمو غير كاف طالما أن الاقتصاد متخلف ويحتاج لتنمية اجتماعية طابعها اقتصادي إنتاجي بقيم عالية قابلة للتطبيق نابعة من الشباب والشابات وتؤثر فيهم، لتجعل المجهود يرتكز على عمالة وطنية مدرَّبة.
والله أعلم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي