الأمن التربوي والأمن الوطني وجها لوجه

اكتسب مفهوم الأمن الوطني في الآونة الأخيرة اهتماما بالغا لدى الدول في شتى أنحاء العالم. وتجاوز مسألة التنظير إلى التطبيق الإجرائي وانتقل من الممارسات الجزئية المتفرقة إلى التوظيف الشمولي التكاملي لهذا المفهوم على أرض الواقع، وفق منظور مؤسسي استراتيجي يعالج القضايا والتحديات الداخلية والخارجية للدول، ويقترح السياسات والاستراتيجيات والخطط التي تعزز الأمن الوطني لأنظمة الدول وشعوبها بما يكفل لها الاستقرار ويحقق لها النماء والرخاء والرفاهية، بل إن المفهوم نفسه يساء استخدامه أو توظيفه في الوقت الحالي من قبل بعض الدول، حيث أصبح مجرد الاشتباه في تهديد الأمن الوطني أحيانا، ذريعة للهيمنة أو الحصار أو الاحتلال.
إن الأمن الوطني بمفهومه الشامل لم يعد مقصورا على "الأمن العسكري" الذي يركز على الدفاع عن تراب الوطن وحماية حدوده، أو الحفاظ على السلامة والأمن وحفظ النظام الداخلي في شتى مناحي الحياة بما يكفل الطمأنينة والراحة للمواطنين والمقيمين على حد سواء.
لقد تعدى مفهوم الأمن الوطني تلك الأبجديات الأساسية في الجوانب العسكرية، ليشمل الحفاظ على التماسك الاجتماعي للجبهة الداخلية، وتعزيز الوحدة الوطنية وتحقيق المشاركة المجتمعية لمواجهة القضايا والتحديات ومتطلبات التنمية، بوصفها ركائز أساسية تمثل الخط الدفاعي والأمني الأول لأي دولة من الدول، والأسس العامة التي يرتكز عليها ما يمكن تسميته "التنمية الأمنية الوطنية المستدامة".
إن مفهوم "التنمية الأمنية الوطنية المستدامة" بوصفه نتاج الاندماج والتكامل بين الأمن التربوي والأمن الوطني، يمكن أن يكون منهج عمل إجرائي لتحقيق أقصى مستويات الأمن الوطني الشامل، ليس في الجانب العسكري فحسب، بل في شتى جوانبه وأبعاده الأخرى، وهي: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتقنية والإعلامية والبيئية. فعلى صعيد "الأمن السياسي" يتمحور التركيز حول القدرة على التعامل مع المستجدات والتكتلات السياسية على المستويين الإقليمي والدولي، ناهيك عن القدرة على التعامل مع متطلبات الإصلاح السياسي الداخلي مثل توسيع المشاركة السياسية والمجتمعية والتعامل الواعي مع القضايا الشورية والديمقراطية والانتخابية. أما على صعيد "الأمن الاقتصادي" فيتمحور التركيز على جوانب ترشيد الطاقة وتعظيم الاستثمار وتوطين الوظائف وتحقيق المواطنة الاقتصادية وحماية المستثمر والمستهلك على حد سواء، ومحاربة شتى أنماط التجارة والأعمال الاقتصادية غير المشروعة.
ويركز مفهوم التنمية الأمنية الوطنية المستدامة في جانب "الأمن الاجتماعي" على التصدي للقضايا المجتمعية الكبرى مثل الفساد الإداري ومحاربة الفقر والتعصب والقضاء على الإرهاب والثأر والفكر المتطرف، والاستبداد وإلغاء الرأي الآخر. ويتم التركيز أيضا على معالجة حالات التقليد الأعمى لبعض القيم والعادات المستوردة أو حالات التشبث ببعض القيم والعادات المحلية البالية، على أن يكون المعيار في الحكم على كلتا الحالتين الالتزام بالثوابت الدينية والمجتمعية. أما في بعد "الأمن التقني" فإنه يركز على نشر الثقافة التقنية ومحاربة القرصنة والاختراقات التقنية، وتوطين التقنية، وتوظيفها بالشكل المناسب الذي يخدم مصلحة الفرد والمجتمع على حد سواء.
أما في جانب "الأمن الإعلامي والثقافي" فإن مفهوم التنمية الأمنية المستدامة يركز على الانفتاح والتعايش مع الآخرين مع الحفاظ على الهوية الحضارية والتصدي لمحاولات الغزو والتغريب ومسخ الهوية الثقافية أو ذوبانها، وتقديم الإعلام البديل الهادف القادر على المنافسة، والخروج عن دائرة سلطة المافيا الإعلامية. وأخيرا فإن بعد "الأمن البيئي" لهذا المفهوم يركز على التوعية وإمكانية التعامل مع القضايا البيئية داخليا وخارجيا والمحافظة على الثروات البيئية والحد أو التخلص من كل مسببات التلوث والتهديد البيئي.
ولو تأملنا مفهوم التنمية الأمنية الوطنية المستدامة الذي ينظر إلى تحقيق الأمن الوطني بمنأى عن الحواجز المكانية والزمانية للوطن، أي أنها تنمية أمنية وطنية لجميع المناطق والتجمعات السكانية من جهة، وتنمية أمنية وطنية لجميع الأجيال المتعاقبة من جهة أخرى. ولو تعمقنا في الأبعاد المتعددة لهذا المفهوم، وهي العسكرية بشقيها الدفاعي والأمني، والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والتقنية، والإعلامية، والبيئية، لوجدنا مفهوما ثاويا في بؤرة كل جوانب التنمية الأمنية الوطنية المستدامة، يتمثل في الأمن التربوي الذي يعد الحاضن الرئيس لما يمكن أن نطلق عليه "الأمن الفكري".
إن الأمن التربوي بما يحمله من مسؤولية كبرى في بناء الأجيال وتشكيل المنظومة القيمية والمعرفية والمهاراتية لجميع أفراد المجتمع، وما يستتبع ذلك من ممارسات على أرض الواقع، يشكل النواة الأساسية لجميع أشكال الأمن الوطني الشامل. ولا تقتصر دائرة الأمن التربوي على المؤسسات التعليمية وحدها، التي سنتناولها بشيء من التفصيل، نظرا لأهميتها ودورها القيادي في ترسيخ وبناء مفهوم التنمية الأمنية الوطنية المستدامة، بل أكاد أجزم بأن بقية المؤسسات المعنية بالتنشئة التربوية وتتضمن المؤسسة الأسرية "البيت"، والمؤسسة الدينية "المسجد"، والمؤسسة الإعلامية "المرئية والمسموعة والمقروءة"، بوصفها وسيلة من وسائل التربية الجماهيرية، فجميع هذه المؤسسات التربوية وغيرها، تتحمل دورا أساسيا في مجال الأمن التربوي يتطلب التنسيق والتكامل والعمل المشترك، جنبا إلى جنب مع المؤسسات التعليمية بمختلف أنماطها ومستوياتها.
ويتحقق الأمن التربوي من خلال صياغة خطاب تربوي أمني موحد يركز على حصانة ووقاية البناء الفكري، ويوجه جميع البرامج والأنشطة والممارسات التي تتم من خلال المؤسسات التربوية المشار إليها آنفا، بحيث لا يفاجأ الناشئة والشباب المتلقون لهذه الأنشطة والبرامج بوجود ثمة تعارض أو تنافر قد يصل في بعض الأحيان إلى التضاد في المضامين والغايات والتوجهات لتلك المؤسسات التربوية. ولعل أحرص ما ينبغي أن تعنى به تلك المؤسسات التربوية يتمثل في بناء الشخصية المتكاملة وتعزيز مفهوم الذات في إطار الهوية الحضارية والهوية الوطنية اللتين تستندان إلى الدين وقيم الحضارة والنظام السياسي.
إن تحقيق الأمن التربوي يتطلب أيضا إعادة النظر في تشكيل الثقافة التنظيمية للمؤسسات التعليمية التي تتوافر فيها الضوابط والمتطلبات الأساسية لتهيئة المناخ المؤسسي لبناء الشخصية المتكاملة المتزنة القادرة على المشاركة في تنمية المجتمع والإسهام في تحقيق الأمن الوطني الشامل.
ولعل من أبرز تلك المتطلبات ما يتعلق بإتاحة الفرص التعليمية المتساوية للجميع، والعدالة في توزيع الخدمات التربوية بين المناطق، وتوفير بيئة ثقافية داخل المؤسسات التربوية تفسح المجال لحرية التعبير والحوار، وتقبل الرأي الآخر والمشاركة الجماعية في صنع القرارات التربوية، مع التركيز على نظام الجودة والتميز والإبداع والابتكار فيما يقدم من البرامج العلمية والأنشطة التربوية، مما يسهم في إعداد جيل صالح ومنتج قادر على المشاركة في شتى أبعاد منظومة الأمن الوطني.
في ضوء ما سبق تتضح لنا العلاقة الوثيقة بين الأمن الوطني والأمن التربوي لدرجة يمكن القول معها إن الأسلوب الأمثل لتحقيق الأمن الوطني الشامل ينبغي أن يكون عبر بوابة التنمية الأمنية الوطنية المستدامة، ولتحقيق ذلك أيضا لا مناص من أن يحظى الأمن التربوي بالأولوية القصوى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي