هل زواج المسيار مبرر؟

تناولت في مقالي السابق الفتوى التي صدرت عن المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في شهر ربيع الأول الماضي, التي كان من ضمنها إجازة أشكال جديدة من الزواج مما اعتبرت مكتملة الأركان والشروط، منها ما يطلق عليه "زواج المسيار". وهو شكل زواج مستحدث، لم يتعارف عليه المسلمون من قبل لعدم وجود حاجة إليه، يقوم على أساس تنازل المرأة عن حقوقها الشرعية التي يتأسس عليها بنيان الأسرة المسلمة الصالحة. وكانت لهم حجج عديدة جيّرها عدد من القراء الذكور في مهاجمة موقفي, وهو ما سوف أفصل فيه أدناه.
وكان مأخذنا على هذه الفتوى أنها بداية تخالف ما نعرفه بالضرورة والشرع من مفهوم الأسرة في الإسلام, التي تقوم على السكن والمودة والرعاية وتحمل المسؤولية وبناء أسرة مسلمة وتربية أبناء وبنات صالحين وصالحات لتأسيس اللبنات التي يقوم عليها بنيان المجتمع المسلم المكلف بعمارة الأرض في شراكة زوجية تقوم على الاحترام المتبادل ورعاية حقوق كل منهما الآخر مدى الحياة. هذا ما نعرفه من الزواج، وهو مما لا يحتاج إليه أن نكون فقهاء لنعرفه، فهذا ألف باء النظام الاجتماعي في الإسلام مما نتربى عليه في البيت والمدرسة. لكن أن يقوم الزواج على مجرد الإشباع الجنسي فهو ما لم نسمع به ولم نعلم أنه من مقاصد الزواج بمفرده، وإلا كان شيئاً آخر من المخدش للحياء ذكر اسمه. إنه اختزال للمعنى السامي لهذه العلاقة الإنسانية في علاقة مادية جنسية بحتة.
وأخذ عليّ عدد من الإخوة, الذكور بالدرجة الأولى، معارضتي هذا الزواج بحجة أنني قد لا أعاني مما تعانيه المرأة المطلقة أو الأرملة أو الراعية لوالديها أو المرأة التي تجاوز عمرها حداً معيناً أو التي ترعى عدداً من الأبناء وليس لها عائل. وقد يكون هذا الأمر صحيحاً بعض الشيء، ولكني أتساءل، كما تساءلت الأخت سهيلة زين العابدين: لماذا تعاقب المرأة التي تسخر عمرها لترعى والديها، أو لماذا تعاقب المرأة الطموح التي تهب حياتها لعمل إنساني كالطب، أو التي تكرس حياتها لأبناء من طلاق أو من ترمل دون أن تدخل عليهم زوج أب، حتى عندما تريد أن تفكر في نفسها تجد نفسها أمام شكل من أشكال الزواج مهين لأنوثتها وكرامتها، ربما لا تجد سواه متاحاً أمامها من العروض الرجالية، فضلاً عن أنه يقوم على تنازلها عن حقوقها.
وأتساءل ثانية: كيف كانت النساء في عهد الصحابة، مطلقات وأرامل ومع أطفال يتزوجن زواجاً عادياً شرعياً مكتمل الأركان والشروط، مُشْهَراً ومعلوماً؟ لقد تزوج رسول البشرية وقدوتنا المصطفى, صلى الله عليه وسلم, من السيدة خديجة وهي مطلقة ليس لمرة واحدة وإنما لمرتين، وقد بلغت السن التي يعتبرها خبراء الزواج لدينا، سن العنوسة الذي يسلطونه على النساء دون حياء أو خشية، كانت في الأربعين من عمرها والنبي يصغرها بـ 15عاماً وقامت هي باختياره وتزوجها. مَن من رجالنا يقتدي برسول الله في مثل هذا الزواج؟ ولماذا لم نره نموذجاً لحل مشكلة المطلقات أو العوانس كما يدّعون؟ ومَن من رجالنا من اقتدى بسنة رسول الله في زواجه من السيدة خديجة وبقي معها موحداً في زواجه حتى توفيت بعد 25 سنة زواجا؟ ومَن من رجالنا يبقي على زوجته هذا العمر كله وهي لم يعش لها بنون واقتصرت خلفته منها على البنات؟ مَن من رجالنا إن عدّد تزوج بمطلقة أو بأرملة كما فعل رسولنا، الذي في السنوات العشر الأخيرة من عمره وحين عدّد لم يتزوج من بكر سوى السيدة عائشة، وكان كل زوجاته التسع الأخريات من المطلقات والأرامل وممن تعدين سن الخامسة والثلاثين كالسيدة أم سلمة، وسن الخمسين كالسيدة سودة بنت زمعة. إنها كلها أمثلة ولكنهم يلجأون إلى أمثلة متأخرة أو روايات منقطعة ليبرروا بها فتح أبواب الاستمتاع بالنساء بأقل قدر من تحمل المسؤولية.

ووفق قول الشيخ محمد النجيمي، في أحد البرامج التلفزيونية، في رده على حجة أن زواج المسيار انتهاك لحقوق المرأة، إن حقوق المرأة يمكن أن تنتهك في حال تزوجت زواجاً مسياراً أو غير مسيار نظراً لوجود مشكلة في تطبيق الشرع الذي هو في حاجة إلى التقنين ومتابعة التنفيذ. فإذا كان هذا حال الزواج العادي فما بال حقوق المرأة في زواج المسيار عندما ينتهك الرجل إنسانيتها أو حقوقها. أليس هذا دليلاً ضد المسيار وليس له؟ نحن في حاجة إلى قوانين تحمي المرأة في جميع الأحوال سواء اختارت زواجاً مسياراً أو سواه، وأنا أشد على يده في هذه النقطة بأننا في حاجة إلى تقنين أو تدوين أحكامنا الشرعية حتى لا تتعرض النساء لأحكام جائرة، وأن تدعمها قوى الدولة لتنفيذها، وهذا هو المحك.

وأختم هذا الجزء بحجة الشيخ أ. د. وهبة الزحيلي، عضو المجمع الفقهي، في تحريمه المسيار بقوله في البحث الذي قدمه إلى المجمع: "إن تنازل المرأة عن حقوقها المادية كالسكن والنفقة، والنفقة لأولادها إن أنجبت، والحقوق الأدبية كالقسمة في المبيت، وقد يسجل العقد وقد لا يسجل، وقد يعلن وقد يتفق على إبقائه سراً، هو زواج ناقص ومبتور، وعديم المقاصد. ويخلص إلى الحكم الشرعي في ذلك: لا إن هذا الزواج وإن كان صحيح الظاهر لتوافر أركانه وشروطه المطلوبة شرعاً إلا أنه زواج تنعدم فيه مسؤولية الرجل في التربية والرعاية والإشراف والإيناس، والإعانة على شؤون الحياة وظروفها القاسية. فكل من الرجل والمرأة راع للآخر". ويفتقد هذا الزواج كذلك القوام الأدبي ومعاني الحياة المشتركة القائمة على التعاون والسكن واطمئنان كل من الرجل والمرأة إلى الآخر. الزواج ليس مسألة مادية فقط أو قضاء شهوة وإنما هو رابطة شريفة سمّاه القرآن ميثاقاً غليظاً.
ويبدو أنني مضطرة إلى ترك الحلول مرة أخرى إلى أسبوع قادم.
ملاحظة: أشكر كل الملاحظات والتعليقات التي تردني من القارئات والقرّاء على جميع الوسائط، الجوّال والإيميل والموقع الإلكتروني، لكني أريد توضيح أن التعليقات الواردة عن طريق الجوّال والموقع الإلكتروني غير قابلة للرد عليها لعدم ظهور عنوان إلكتروني، وفي بعض الأحيان ترد من غير أسماء.

* مؤرخة وكاتبة سعودية
<p>* <a href="mailto:[email protected]">Hatoon-alfassi@columnist.com</a>

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي