بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على الغزو الأمريكي – البريطاني للعراق وأقل من خمس سنوات على الاحتلال الأمريكي لأفغانستان تبدو نتائج هذين الحدثين المركزيين في تطور النظام الدولي والنظام الإقليمي العربي، وبخاصة غزو العراق واحتلاله، شديدة الخطورة على هذين النظامين وبخاصة الثاني. وقد بات شبه مؤكد اليوم وبعد تتابع تلك النتائج الخطيرة التي يتفاقم بعضها يومياً أن واشنطن لم تراع عند اتخاذها قرار غزو العراق واحتلاله تأثيراته في النظم السياسية في الدول العربية ولم تشعر بحاجة لأن تتشاور حتى مع الصديقة منها حول تلك التأثيرات لكي تجنبها إياها.
وقد كانت النتيجة المنطقية لتلك السياسة الانفرادية من جانب الإدارة الأمريكية أنها وضعت كل تلك الأنظمة في أكثر المواقف صعوبة وحرجاً ما بين رأي عام داخلي مجمع على رفض الغزو والاحتلال اللذين لا يستندان إلى أي شرعية دولية وضاغط عليها لكي تتخذ مواقف عملية للتعبير عن ذلك الرفض، وما بين علاقاتها الوثيقة ومصالحها المتنوعة مع واشنطن التي تحول بينها وبين اتخاذ مثل تلك المواقف الرافضة للغزو والاحتلال. ومع تفاقم الأوضاع الأمنية والمعيشية والسياسية يوماً بعد آخر في العراق المحتل وتزايد ظاهرة المقاومة المسلحة للاحتلال ومعها ظاهرة الإرهاب البغيض فضلاً عن الاعتداءات الأمريكية والبريطانية العسكرية المتواصلة، فقد راح عبء ذلك التناقض يزداد على مختلف النظم العربية ما بين ضغط الداخل وضغط الخارج إلى الحد الذي أضحى يمثل تهديداً حقيقيا لاستقرارها جميعاً ولاستمرار بعضها. وقد بدا واضحاً لعديد من السياسيين والمحللين في الشهور الأولى لغزو العراق أنه في حالة استمرار التدهور في الأوضاع العراقية وكذلك الفلسطينية وتزايد المقاومة ومعدلات العنف والقمع النظامي في الحالتين، فإن ذلك التناقض الضاغط على أنظمة الحكم العربية واستقرارها سوف يتزايد بشدة ويدفع تلك مختلف مجتمعات ودول المنطقة العربية كلها إلى حالة متواصلة من عدم الاستقرار والتفاعلات المفتوحة على كل الاحتمالات، وهو الوضع الذي يبدو سائداً اليوم.
وقد حاولت كتابات عديدة أن تتوقع مسار هذه الأوضاع في المستقبل وبخاصة في ظل حقيقة استمرار القوات الأمريكية والحليفة في العراق لفترات طويلة، فذهب معظمها إلى أن المؤشرات المتجمعة حتى الآن والاحتمالات النظرية ترجح أنه لما كانت ضغوط الداخل المتوقع تصاعدها بدرجات كبيرة وواسعة هي الأكثر خطورة وتأثيراً في الاستقرار والأمن والاستمرار الذي تأمله النظم السياسية العربية في بلدانها، فالأرجح أنها سوف تنحو تدريجياً إلى الاستجابة المتصاعدة لها على حساب الضغوط الخارجية بما فيها علاقات الصداقة والمصالح مع الولايات المتحدة، التي ستكون هي المسؤولة الوحيدة عن وصولها إلى تلك الحالة من التدهور الذي توقعته تلك الكتابات. وتتزايد قوة ذلك الاحتمال بالنظر إلى تخوف كثير من الدول العربية من تغيير الخريطة السياسية والجغرافية فيها بدءا من العراق الذي تتعالى بداخله الآن دعوات التقسيم والفيدرالية وتتصاعد حدة الصراعات المذهبية والطائفية. ويزداد ذلك التخوف بدوره من أن الإدارة الأمريكية لم تخف رغبتها التي أعلنها أكثر من مسؤول كبير فيها في رسم خريطة جديدة للمنطقة العربية بما يتواءم مع المصالح الأمريكية، وهو الأمر الذي يمثل رغبة قديمة ودائمة لحليفتها الدائمة دولة الاحتلال الأخرى في المنطقة، أي إسرائيل. إن اتفاق الدولتين الحليفتين على إعادة رسم خريطة تلك المنطقة بما تنتهجانه من سياسة القوة العسكرية يمكن أن يفجر موجات واسعة من التفاعلات العنيفة فيها وسيزيد من عوامل التوتر وعدم الاستقرار سواء على الصعيد الداخلي لدولها أو على الصعيد الخارجي للعلاقات الإقليمية فيما بين تلك الدول.
كذلك فقد ولدت الحرب الأمريكية على العراق تغيراً آخر مهماً بداخل النظام الإقليمي العربي يبدو أنه آخذ في التبلور والظهور سيكون له تأثيره المهم على هذا النظام ومختلف دوله ومجتمعاته. فمجريات الأحداث الدائرة منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001 توضح أن هناك اتجاهاً حثيثاً يأخذ بناصية الحركات الإسلامية في العالم العربي والفكرة الإسلامية عموماً نحو التقارب مع الحركات القومية العربية والفكرة القومية عموماً خاصة فيما يتعلق بتصوراتهما حول العلاقة الصراعية مع الغرب وتركز اهتمامهما على قضايا مشتركة تعد القضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي إجمالاً هي مركزها ومحورها ثم أضيفت إليها قضية احتلال العراق بعد ذلك. وإذا كانت السنوات العشرين السابقة في العالم العربي قد شهدت اتجاهاً متزايداً لذلك التقارب، فهو قد اتخذ مسار "أسلمة" الفكرة القومية وحركاتها المختلفة، أي تأثرها بأطروحات فكرة الإسلام السياسي، أكثر من طريق "تعريب" تلك الفكرة الأخيرة، أي تأثرها برؤى الفكرة القومية العربية. أما الأمر الذي يبدو أنه قد بدأ في الظهور حالياً وأنه سوف يزداد تبلوراً خلال المدى القصير القادم فهو أن ينشط ذلك التقارب أكثر على المسار المعاكس، أي "تعريب" الفكرة الإسلامية، مع تواصل نشاطه على المسار الثاني، أي "أسلمة" الفكرة القومية العربية، وهو الأمر الذي يجد مظاهر عديدة ترجحه سواء بداخل العراق أو في عديد من الدول العربية الأخرى. والأرجح أن يؤدي ذلك النوع من التقارب، إذا ما حدث وسار بمعدلات متسارعة، إلى إعادة تشكيل خريطة القوى السياسية القائمة في المجتمعات العربية حالياً والعلاقات فيما بينها، والأهم من ذلك التوازنات السياسية القائمة بين تلك القوى وبين النظم السياسية العربية الحاكمة وبالتالي مستقبل هذه النظم واستقرار مجتمعاتها.
الخلاصة واضحة: أن أحداً في مختلف مستويات وأنحاء الإدارة الأمريكية في واشنطن لم يكن يتوقع كل التفاعلات والنتائج الخطيرة التي ولدها غزو العراق واحتلاله في المنطقة العربية وتأثيراتها الحاسمة على استقرارها. ومع ذلك فالمؤكد أن تلك التفاعلات والنتائج قد أضحت واضحة اليوم، وهو ما يدفع إلى التساؤل: هل ستشرع الإدارة الأمريكية إلى تعديل سياساتها وتوجهاتها تجاه تلك المنطقة عموماً والعراق خصوصاً لكي تقيهما معاً تلك المخاطر المحتملة القادمة؟ أم أنها ستظل ماضية في طريقها الحالي نفسه والذي سيكون ثمنه غالياً سواء بالنسبة إليها أو بالنسبة إلينا جميعاً أبناء المنطقة العربية؟
